الاثنين، 16 أبريل 2012

الغرب و البقية: تحوّلات ميزان القوى العالمي في المنظور التاريخي



الغرب والبقية: تحولات ميزان القوى العالمي في المنظور التاريخي
نيل فرغيسون
بروفيسور الدراسات التاريخية
في جامعة لورانس ، هارفر ومدرسة هارفرد للاقتصاد
تقديم البروفيسور ميشال كوكس:
كلية العلاقات الدولية ومدرسة لندن للعلوم السياسية والاقتصادية
9 ماي 2011
                            من إعداد و ترجمة : جلال خشيب .


   امتنان كبير أني موجود هنا في نهاية جولة الكتاب المرهقة أو بالأحرى بعدما تم شويي وسلقي وغليي من قبل الإعلام البريطاني، لقد أخبرت سيدة من "الغارديان"، تناسبا مع الاهتياج، بأن الشيء الوحيد الذي أحببته حقيقة في انجلترا كان راديو3، وقد ضغطت علي آملة أن أقول: "أوه وصحيفة الغارديان كذلك"، كانت في الحقيقة تريد تعذيبي حتى تحظى بهذه الإجابة.
   ينبغي أن أضيف "رفقة ميك كوكس" أنه شرف كبير لي أني عدت إلى هنا، طبعا ليس تقديرا للشاتهام هاوس، بالأحرى فقد نسيت عدد المرات التي تحدثت فيها للشاتهام هاوس، هي فرصة كبيرة لأتحدث للجمهور المهتم بالعلاقات الدولية المقارنة عن العمل الذي قمت به، العمل التاريخي الذي أجريته، هذا ما سأقوم به بإختصار في هذه الأمسية.
   مضمون وحجة كتابي السابق "الحضارة: الغرب والبقية" هي أن أغلب الظواهر التاريخية المهمة للحقبة الحديثة منذ منتصف الألفية ما بعد سنة 1500 كانت صعود ما اصطلح على تسميته بالغرب فالحضارة الغربية هي واحدة من تلك العبارات المرحة التي يمكنك متابعة مسارها في حالة ما إذا استعملت أحد التطبيقات الجديدة الرائعة لمحرك البحث غوغل، إنها في الحقيقة تحظى بشعبية في منشوات الكتب الانجليزية الصادرة في منتصف القرن العشرين، انه من الغريب أن نجد عبارة "الحضارة الغربية" قد استعملت في الغالب ما بين حوالي سنة 1919م ومنتصف الخمسينات من القرن العشرين، في الحقيقة هي عبارة الحربين العالميتين والحرب الباردة الثانية، كما استعملت عادة وعلى العموم في الحرب الإعلامية البريطانية والأمريكية للتعريف بمحيطيهما في علاقته بالمحيط الآخر أي المجال الألماني وكذا الروسي في الأساس، والتي كانت بالطبع من وجهة نظر تاريخية  وليس غريبا على أقل تقدير اعتبارا للتعريف الذاتي الغربي الأنغلو أمريكي.
   أخذتُ الغرب على أنّه يعني أو بالأحرى كان الغرب يعني –مجموعة الإمبراطوريات التي كانت أصول منشأها ما بين أوروبا الغربية والنهاية الغربية لأوراسيا، دعوني أقول لكم أنّه لو أخذتم جولة "حول العالم قبل نحو 600 سنة، سنة 1411، فلم يكن لكم بالإمكان في واقع الأمر رؤية الكثير للأسف لتتبينوا مستقبل القوة ومستقبل الثروة بالنسبة لهذه الإمبراطوريات، بالأحرى ما كان سيصادفكم في النهاية الغربية لأوراسيا هو ثلّة من الممالك الصغرى الدموية الفقيرة، دون الحديث عن رائحتها الكريهة – بالإضافة إلى الجمهوريات الغربية، كان سيصادفكم خريطة سياسية مجزأة بشكل كبير، أيضا كان سيصادفكم حضارة غير متطورة " ساذجة " مقارنة بيتك التّي كان بإمكانكم رؤيتها عند النهاية الأخرى لأوراسيا مينغ تشاينا Ming china.
   إذن فالنقطة الأساسية للكتاب تتسائل لماذا كانت ممالك صغرى كانجلترا من دون الإشارة إلى سكوتلاندا والبرتغال، قد برزت كإمبراطورية مبنية "مهيّئة" بشكل أكثر نجاحا مع ذلك بحلول سنة 1913، هذه الثلّة أو بالأحرى هذه الإمبراطوريات تحكمت في حوالي 58% أو 59% من مساحة الأرض العالمية وحوالي نسبة مماثلة من سكانها، حتى أن هذه الإمبراطوريات الغربية مثلت وبشكل مذهل تقريبا حوالي 80% من الإنتاج المحلي العالمي الضخم، هذا إذا أخذنا تقديرات أنجوس ماديسون بعين الاعتبار و أضفناها إليها معا.
   كيف حدث ذلك على الأرض ؟ ? How on earth did that come about
   حقيقة كانت نتيجة تاريخية جد مفاجة جاءت كنقطة أفضلية للإمبراطور يونغل، والذي من المؤكد أنّه لم يكن متوقعا سنة 1411 أن يحقق هؤلاء البرابرة البعيدون أي شيء مثل ذلك، كما من المؤكد أنّه لم يكن يتوقع بأن برابرة الغرب البعيد سيحجّمون توسع "إمبريالية" الصين إلى الوضعية التي –على ما اعتقد- أسميناها في الستينات من القرن العشرين بالتبعية dependency
   لأنّه على الرغم من أنّ الصين لم تجلب مطلقا القانون كما فعلت الهند الماغولية، فقد كان واضحا جدا مع بداية سنة 1900 أنها كانت في موضوع تبعية، مرتبطة بالغرب –تبعية في الاقتصاد، المالية، تبعية عسكرية، مطلقة- فالنُفكر بالطريقة التي قُمع بها ملاكم الثورة سنة 1989 من قبل حملة دولية هائلة والتي استكملت تدخلها في السيادة الصينية عبر نهب الثروات من المدينة المحضورة.
   الطريقة التي أحاولُ أن أساعد بها طلبي في LSE وعندما أعود إلى هارفرد في السنة الدراسية المقبلة من أجل أن نفهم حقبتنا التي نتابعها، نحن نعيش في منتصف ألفية السيطرة الغربية للغرب عموما، وفي واقع الأمر فإنّ نهاية هذه الحقبة تأتي سريعة جدا، لذا وعلى سبيل المثال إذا ألقيتم نظرة سريعة على مستويات الدخل لكل فرد مثلما كانت عليه أواخر السبعينيات فإنّ المعدل الأمريكي كان أغنى بحوالي 30 مرة، من مثيله الصيني، هذا ما يسمح بالتباينات في امتلاك القوة، في الواقع فقد كانت حلاقة الشعر في بيجن سنوات السبعينيات أقل ثمنا من مثيلتها في نيويورك.
   اذا ذهبَ مواطنٌ صينيٌ وعاش في نيويورك بدخله أو بدخلها الفردي سنة 1978، كان سيجد نفسه أو ستجد نفسها …"أليس مملا وشاقا أن نقوم بذلك؟ آمل أن تنتهي هذه الجملة قريبا هههههـ…" … واحد من سبعين الأكثر ثراءا حسب المعدل الأمريكيone seventieth as riche as the average American. من واحد إلى سبعين فارق ، يتبين لكم مدى اتساع الهوة الكبيرة التي كانت آنذاك نهاية السبعينات بإمكانكم أن تقيموا نفس الحسابات بالنسبة لبريطانيا والهند.
   لقد اتسعت هوة المعيشة الضخمة هذه منذ أواخر السبعينيات بين الغرب والبقية بشكل دراماتيكي، لذا فإنّه من الحقيقة اليوم أن المعدل الأمريكي "للدخل الفردي" وحده أغنى خمس مرات من المعدل الصيني، وهذا ما حدث على الأقل خلال الفترة التّي أعيشها .
   إذن فنحن نعيش بشكل مذهل، في فترة إعادة تقارب "إلتقاء، إلتحام" "Reconvergence" كبيرة في الثروات الاقتصادية وفي المصطلحات الجيوبوليتيكية حسب ما أظن كذلك، ليس تنبأً خياليا بعيدا أن نقول بأنّ الصين سوف تتجاوز الو.م.أ بمصطلحات الإنتاج المحلي الضخم خلال العشر سنوات القادمة، فهذا الأمر محتمل الحدوث بشكل كبير.
   حقيقة، فإنّ كل من حاول أن يجعل توقعه هذا خلال العشر سنوات الأخيرة، نجده يضطر إلى تحديث توقعاته هذه لتتلائم مع التاريخ المنتظر الذي يحدده، فعندما قام غولدمان ساش بوضع توقعاته الأولى لـ BRICS للدراسات، فقد حدد تاريخ 2040 باعتباره التاريخ الذي ستتجاوز فيه الصين الو.م.أ ليعدل هذا التاريخ فيما بعد إلى سنة 2027، في حين جعله ويليام بيتر -في السيتي بانك- أقرب قليلا في بحثه الأخير.
   إذن فنحن نعيش فترة حاسمة فما هي مؤشراتها؟
   إذن فالحجة التي اعتمدتها في كتابي "الحضارة" هي أنّه ولتفسير السيطرة الغربية فإننا بحاجة إلى معرفة الأفكار الستة والمؤسسات التي منحت الغرب هذه الأفضلية على بقية العالم، ليس اقتصاديا وحسب بل استراتيجيا أيضا، فلمدة طويلة ومذهلة تمكن الغرب من احتكار هذه الأشياء.

   مراعاة للاختصار والبساطة أيضا، فإنني أسمي هذه الأشياء بـ "التطبيقات الحاسمة the killer applications هذه واحدة من الأشياء التي أشار إليها ميك "ميشال كوكس" عني سابقا، فقد تعمّدتُ أن أقسّم هذا المصطلح لأكونَ مُزعجا، لأنه من الأشياء التي اكتشفتها في انجلترا أنّه إذا كنتَ منزعجا فإنّ الناس سيميلون إلى تذّكر ما تقول إذن ففكرة التطبيقات الحاسمة ليست في الواقع هذا الإزعاج، يمكن القول ببساطة أنها تلك المؤسسات/ الأفكار الست التي منحت للغرب تلك الأفضلية.
   إحدى هذه الأشياء هي المنافسة، لديكَ نظام اقتصادي وسياسي متنوع متعدد بدلا من نظام إمبريالي "توسعي" أحادي، ستثبتُ إذن أن لديك أفضلية أكبر، على سبيل المثال: في سباق التجارة والتسابق من أجل المصادر الذي أثار عصر الاكتشاف والتنقيب، العصر الذي كان بإمكان الصين أن تتمكن منه لكنها اختارت غير ذلك، وذلك بسبب تغير الإمبراطور في بيجين.
   ثاني تطبيق حاسم والذي يحظى في الواقع بأهمية قصوى هو الثورة العلمية، الانجازات الكبيرة التي نربطها بإسحاق نيوتن حدثت في فترة قصيرة ومذهلة في القرنين السابع عشر والثامن عشر وفي إقليم جغرافي مركز وحاسم، فقد حدثت معظمها وبدون استثناءات في أوروبا الغربية، وليس في كامل أوروبا الغربية بل في شبه الاقليم السداسي.
   هذا ما منح الغرب أفضليات هائلة، إحدى تلك الإنجازات – فقط حتّى نُعطي مثالا واحدا من الكتاب - كانت المدفعية الغربية والتي أصبحت أكثر دقة، فعندما تفهمون فيزياء نيوتن وتُطبقونها على القاذفات كما فعل بن يامين روبينز فإنّ أسلحتكم ستبدأ في إصابة الأهداف، وهذا أمر جد مهم في عمليات القتال كما تتصورون.
   ثالث تطبيق حاسم كان الفكرة التي ينبغي على المؤسسات السياسية أن ترتكز عليها عند بناء القاعدة القانونية فيما يخص حقوق الملكية الخاصة، إن مفهوم جون لوك للحرية مرتبط نوعا ما بحقوق الملكية، كما ينبغي أن تقوم فكرة التمثيل الحكومي نوعا ما على هذا الأساس الشرعي المقدس لحقوق الملكية، لم يكن هذا التطبيق الحاسم كغيره من التطبيقات في حقل المؤسسات السياسية.
   لقد ثبتت أن تصدير ذلك لأمريكا الشمالية -أين كان بإمكان توزيع الملكية سيكون أكثر مساواة مما كان عليه في انجلترا- أثبت أن لدينا مجالا حيويا حاسما، كما ثبت أن عملية إرساء أسس للتحول إلى الديمقراطية أنه أمر مجدي وعبر مفاهيم عدة.
   بدأت للتو أفقد أعصابي، أما البقية –ومراعاة للاختصار- فهي الطب الحديث وقد بدأ مع أواخر القرن التاسع عشر، فقد ضاعف توقعات استمرار حياة البشر إلى مرتين ثم إلى ثلاث مرات، فمن الواضح أن ذلك قد منحكم الأفضلية أكثر من أي شخص أخر.
   المجتمع الاستهلاكي فبدون هؤلاء فلم يكن للثورة الصناعية أي معنى يذكر، في الحقيقة فقد كان ابتكارا غربيا، بعدها عمل الأخلاق The work ethic، والذّي تحدثنا عنه أنا ومايك أثناء الطعام.
   إنّه الأمر الذي جعل الناس يعملون ساعات طويلة أكثر من السابق ، جعلهم أكثر تركيزا وأكثر كفاءة وفاعلية من ذي قبل.
   لعدة قرون وُجدت كل هذه الأشياء في العالم الغربي، لقد سعى المؤرخون وعلماء الاجتماع إلى تفسير سبب ظهور هذه الأشياء في الغرب بدلا من مكان آخر، لست بصدد الحديث عن هذا الأمر في أي وقت من هذا اليوم.
    وبدلا من ذلك فبودي أن أبدي الدليل "الحجة" في زماننا هذا فنحن نرى استقدام "downloading" التطبيقات الحاسمة الست بكثرة حتى وإن لم يكن ذلك في أغلب بقية العالم، هذه العملية ترجع بنا في واقع الأمر إلى زمن سحيق، إلى العصر الميجي في اليابان، لقد كان اليابان المجتمع غير الغربي الأول الذي نرى أنّه استنسج هذه الأفكار والمؤسسات.. فإذا لم تستطع التغلب عليه حينها فقط يجب عليك مشاركته.. لكن في الحقيقة وفي زماننا هذا فان المجتمعات الآسيوية الهائلة –الصين والهند- فقط هي المجتمعات التي تتسم بالجدية فيما يخص هذه الاستقدامات أو "الإسقاطات" " downloading"، والتي كما دعوتها بالتطبيقات الحاسمة.
   فعندما طبقت الصين ذلك، حدث شيء ما مذهل بالفعل، نحن نشهد في حقبتنا هذه أسرع وأكبر ثروة صناعية على الإطلاق فبالرغم من تمثيلها خُمس البشرية "fifth of humanity"، وبالكاد 2 أو 3% من الاقتصاد العالمي إلى 1% قريبا فقد دفعت هذه الثرة الصين إلى الوضعية التي شكلتها، وفي الحقيقة اعتقد أنّها ستصبح في القريب العاجل القوة الاقتصادية الكبرى في العالم متجاوزة الولايات المتحدة الأمريكية التي أخذت هذه المكانة منذ سنة 1872.
   فمثلما حاولتُ أن أوضح في كتابي أنّه إذا أخذتم بعين الاعتبار قرون الركود التي ميّزت كل من الصين والهند فقد كانت المعجزة الآسياوية الأكثر إذهالا، ونقصد بالركود هنا في معناه المرتبط بنمو الدخل الفردي، وإذا حسبنا تقديرات الدخل الفردي فإنّ آسيا لم يحدث فيها شيء في عهدي المينغ والكينغ the ming and qing periods فلم يكن لأي شيء آخر كان قد حدث في هذين المجتمعين له أهمية من شأنه ألا يمكنهما من رفع متوسط معدل المعيشة.
   من التحولات التي نشهدها، ونجدها أيضا أكثر دلالة حتى في هذه المدة القصيرة التي وصفتها للتو بما فيها مدة الثلاث أعوام أو الأعوام الأربعة الأخيرة، فقد عانى الغرب من أزمة مالية والتي لم تدمر ثروة العالم الغربي وحسب بل وربما دمرت أشياء أكثر أهمية ، الشرعية، المصداقية، بل وحتى التقدير الذاتي للغرب نفسه والذي أصبح يستعمل عبارة تناسب واشنطن من دون ضحكة مكتومة وساخرة.


   إذن فقصة الثلاثين أو الأربعين سنة من الالتحام "إعادة التقارب" منذ بدأت اقتصاديات آسيا الكبرى في استخدام وإعمال تطبيقاتها الحاسمة، كانت قد تبعت خلال السنوات القليلة الماضية بأزمة في الغرب، أزمة كانت هي الأكبر من أي أزمة أخرى منذ الكساد الأعظم… لا ينبغي أن يوهم أحد ما نفسه وأن يفكر بأن الأزمة المالية صارت من الماضي، لأنها أصبحت واقعا معيشا، إنها تنكشف يوما بعد يوم وبالطبع فان آخر أخبار أزمة الدين اللانهائية في أوروبا هي تذكير بأن المحفز المالي والضريبي، دون أن نهتم كم سيستغرق الأمر أو كم مرة تقرؤون فيها بصوت عال ومسموع كلمات جون ماينادر كينز، فانه عاجلا أم آجلا ستحدث أثرا ومخلفات.
   إن الآثار التي نشهدها حاليا في محيط أوروبا سنشعر بها قريبا في الاقتصاديات الكبرى وربما ستكون هذه المرة أقرب إلى الديار.
   ما أريد أن أقوم به في الوقت المتبقي قبل أن نفتح النقاش هو التساؤل عن تطبيقات "الالتحام، إعادة الاقتراب" الكبرى للعلاقات الدولية، ويبدو لي أن الإجابة عن هذا التساؤل تعتمد بالأخص على طريقة قراءاتكم للصين الجديدة.
   لقد قضيتُ عطلة نهاية الأسبوع في قراءة كتاب هنري كيسنجر الجديد عن الصين، فقد وجب عليّ قراءة كل ما كتبه الرجل لأنّي بصدد كتابة سيرته الذاتية، وهو أمر مثير للحنق في سيرته الذاتية أن أكتشف أنّه يخطط لكتابة كتاب في نفس الوقت الذّي أنا بصدد البحث في حياته، في الحقيقة فإنّ كتابه عن الصين كتاب لامع ودراسة رائعة للصين، والتي لم تُبرز فقط فترة الركود المطوّلة التوسعية "الإمبريالية" ولكنها أبرزت أيضا فترة الثورة الدائمة في عهد ماوتسي تونغ عندما كان كيسنجر أول من زار البلد بالطبع.
   الحجة التي طرحها أنّه وبالرغم من الاهتزازات التي ارتبطت بمملكة ماو وفي الحقيقة تلك الهزة الاقتصادية التي أطلق لها العنان من قبل دانغ سياوبيغ فإنّ الكفاءة السياسية لدولة الصين بقيت متأصلة بالجذور التقليدية التي ترجع إلى كونفوشيوس ففكرة أن هناك تقليد للحضارة الصينية يُعد أمرا بالغ الأهمية في أي نقاش مقارن حول الصين، في الحقيقة سوف تجدون حجة مشابهة في كتاب مارتين جاكسن "عندما تحكم الصين العالم" حجة بأن الصين تعد دولة –حضارة.
   تختلف إمبراطوريات الغرب عن القوى الكبرى للغرب فهدف الأخيرة ليس الإمبراطورية أو القوة بالمعنى الذي نفهمه في التقليد الغربي بل هدفها هو تحقيق الاستقرار الذاتي كغيرها من كل المماليك على الأقل في إقليم آسيا –الباسيفيك، وأن تحظى بالإشادة سواء الرمزية أو الحقيقية من قبل دول الحوار.
   لذلك فإنّ حجة كيسنجر هي أنّه ليس بإمكان أحد ما أن يتصرف بالطرق التي يمكننا أن ننظم بها استخدام تصنيفاتنا التقليدية في العلاقات الدولية باستثناء صناع السياسة الصينيين وبالأخص صناع السياسة الخارجية، فلا هم بالواقعيين ولا هم بالمثاليين، فهم في الحقيقة لا يقومون بمتابعة ميزان القوى ولا أي من الأهداف التي نربطها نحن بالكفاءة السياسية الغربية أو بالدبلوماسية، فهم في إحدى المعاني يبحثون عن موازنة البرابرة في مواجهة الآخرين –وهذه إحدى أهم حججه- حتى يلعب كل منها دورا في مواجهة الطرف الآخر.
   إذا كان الأمر كذلك وإذا كان هذا ما ينبغي اعتقاده بخصوص الصين باعتبارها أعظم قوة اقتصادية في العالم وربما باعتبارها قوة مطلقة في نهاية الأمر، فإنّ الإستجابة العميقة  حول الكيفية التي ينبغي نرد بها من الممكن ألا تكون في حقيقة مهددة للصين على وجه الخصوص، هذا ما نواجهه من قبل هذه النهاية البعيدة لأوراسيا.
   لكن أريد أن اقترح عليكم أنّ هناك إمكانية أخرى، طريقة أخرى للتفكير بخصوص الصين الجديدة، فبالإضافة إلى استخادم "إعمال" التطبيقات الحاسمة التي جعلت المعجزة الاقتصادية الصينية أمرا ممكنا، فإنّ الصينيين يقومون أيضا بإعمال المفهوم الغربي للقوة، هذا ما سيجعلهم إلى حد بعيد يتصرفون بطرق مختلفة من الطرق التي ارتبطت بها في نظرنا السياسة الخارجية الصينية في الماضي.
   دعوني أكون أكثر دقة، يبدو لي أنّ مقتضيات التصنيع الصيني بما فيها على سبيل المثال: الحاجة إلى تأمين إمدادات السلع والبضائع تقود الصين على مضض إلى ما أشبهه بتنظيم تاريخي ، إستراتيجية إمبريالية توسيعية رسمية، مثلا دول جنوب الصحراء الإفريقية Sub Saharan africain من يعرف منكم هذا الإقليم سوف يتأكد من رؤية مؤشرات المشاركة الصينية في أغلب الأمكنة هناك، والتي توشك أن تصبغها بصبغتها الخاصة.
   قد عُدتُ للتو من رحلة إلى زامبيا، وليس من الدهشة فقط رؤية مستعمرات صينية صغيرة مرفوقة بمطاعم صينية وأسواق أخرى للبيع بالتجزئة ولكن ربما من أكثر ما يلفت الانتباه هو وجود مناجم صينية للنحاس و معامل صينية لصهر النحاس ليست بعيدة عن الأولى، مزارع صينية لحبوب الصويا وغيرها، وهذا فقط في دولة واحدة.
   في الحقيقة فإنّ هذا الصنف من الأشياء يعد أمرا ظاهرا في دول جنوب الصحراء الإفريقية، في أمريكا الجنوبية أيضا، وأجزاء أخرى من آسيا .. ما الذي يحدث هناك؟
   يبدو لي أن ما يحدث هناك هو أمر عقلاني بامتياز في إحدى أوجهه بالمفاهيم الضيقة للاقتصاد، وهو نقطة  أفضلية وامتياز بالنسب للصينيين، فقد وسمت أسواق السلع بتقلب للثمن بشكل كبير في السنوات الأخيرة، وقد تتبع الارتفاع الأكبر سنة 2008 بتصاعد آخر سنة 2010-2011 فهذا الأمر مثير للقلق جدا في التوقعات الصينية، فأحد العوامل التي تسببت في ارتفاع ثمن السلعة بشدة هو الطلب الصيني على وجه التحديد.
   وكنتيجة لإستراتيجيتها التدخلية للحفاظ على عملتها الضعيفة، فقد اقترب التراكم الصيني في غضون ذلك من الثلاثة تريليونات دولار من احتياطاتها الدولية، ماذا لو كنتم بدلا من ذلك في مكان الصين؟ حوالي ثلاثة ترليون دولار هل تطلبونها من الخزينة الأمريكية أو من الهيئات الأمريكية الأخرى؟ أو معامل النحاس عندنا؟ أو الفضة؟ بنيتنا التحتية؟ … من وجهة نظر اقتصادية ضيقة فإنّه من العقلانية بالنسبة للصين أن تنتقل من احتياطات الدولار المهيمنة إلى السلع المنتجة الموجودة، حسبما اعتقد فإنّ هذه هي الإستراتيجية المعتمدة بالنسبة لبيكين لسنوات قادمة من الآن.
   هناك أبعاد أخرى لها يمكن أن يسمى بالإمبراطورية الصينية غير المقصودة، فعلى سبيل المثال فإنّ سرعة الصين في جسر الهوة في مجال الحرب الالكترونية هو أحد المشاكل العميقة التي يواجهها الآن صناع السياسة في البنتاغون وفي أماكن أخرى أيضا.
   الحكمة التقليدية تقول أنّ الصين بعيدة لأميال وفقا للمصطلحات العسكرية هذا يعد أمرا مؤكدا بحق من الناحية التقنية في حالة ما إذا أخذتم بعين الاعتبار النزاعات العسكرية في القرن العشرين لكن في مصطلحات القرن الحادي والعشرين، فإنّ الهوة بين الصين والو.م.أ حقيقة جدُّ ضيقة في مجال الفضاء الالكتروني، حتى أنّ هناك من يقول أن الصين ستتجاوز الو.م.أ في ساحة معركة المستقبل.
   ثالث وآخر نقطة في هذا الصدد، إذا تأمل أحدٌ ما في المستقبل متوسط المدى للصين، مستقبل سيكون فيه النمو بطيئا، هو مستقبل مضمون في معظمه، لكن الحزب الاشتراكي سيسعى للحفاظ على احتكاره للقوة، هناك تسائل يطرح نفسه كيف يتمكن النظام الصيني من جعل نفسه يبدو شرعيا في أعين شعبه إذا لم يتمكن من تحقيق نمو بسرعة 8،9،10% سنويا؟ أحد الإجابات الواضحة لهذا التسائل هو: من خلال مفهوم الوطنية "القومية"  "Nationalisme" إحدى المسائل التاريخية المألوفة ، والوطنية هي إحدى أهم العوامل المتنامية في السياسة الصينية اليوم.
   قبل بضعة سنوات، طلبتُ من بعض طلبتي في هارفرد، وبعضهم كان صينيا، للنظر في أثر الانترنت على المجتمع الصيني، لأنّها بدت لي بشكل محتمل أمرا ذا أهمية، أهمية أثر الصحافة المكتوبة على وسط أوروبا خلال القرن الخامس عشر وأوائل القرن السادس عشر، لم يكن لدي أي فكرة عن ماهية الإجابة التي كان ينبغي أن تكون.
   لكن أحد أهم أوجه الإجابة كان أن الوطنية "القومية" صارت فيروسا لدى الشباب الصيني عبر فضاء الانترنت، فقط ألقوا نظرة على اليوتيوب إذا أردتم معرفة ما أقصده بهذا، فبعض من فيديوهات لقومين متطرفين لا يتم إنتاجها من قبل مصادر رسمية في الوقت الذي كانت فيه الأزمة التيبتية مشتعلة أين كان الشاب الصيني يأخذ انطباعا عما يعرضه الإعلام الغربي لما ينظرون إليه باعتباره مشكلٌ صيني داخلي.
   حجتي بعبارة أخرى، هي أنه لا ينبغي أن نفترض أن الصين سوف تعود على نحو ما إلى أسرة المينغ أو السونغ أو أي من أسس التشينغ السابقة بالطريقة التي تدير بها سياستها الخارجية الآن ، فإنّ الالتحام "إعادة الاقتراب" الأكبر أعاد الصين إلى الخلف أين تستخدم أهميتها الاقتصادية النسبية، من الممكن أنّ استقدام "إعمال" التطبيقات الحاسمة للرأسمالية يعد أمرا مهما للغاية بالنسبة لإمبراطوريتها غير الرسمية، كما استقدمت الصين أيضا بعضا من جوانب الحياة المؤسساتية الغربية.
   إذا كان الأمر كذلك فكيف ينبغي أن تكون استجابتها؟
   حسنا، يبدو لي أنّ الإشكال الذّي نواجهه حاليا خاصة إذا نظرتم إلى هذا من منظار نقطة الأفضلية بالنسبة لأوروبا إنه لمن السهل على الصين أن تُقسّم وتحكم الدول الأوروبية، الطريقة التي ينظر بها للسياسة الخارجية اتجاه الصين في العديد من الدول الأوروبية حاليا وربما بما فيها هذا البلد أيضا، هي نوع من المبارزة في المعاملات التجارية.
   فالتنافس من أجل جلب لحم الخنزير أو الشاي أو أي شيء من الزوار الصينيين هو تنافس شديد بالفعل، وهذا أكثر ما نعرفه عن علاقتنا مع الصين، لكن يبدو لي أننا نحن أكثر عرضة لإستراتيجية صينية تضع البرابرة في مواجهة بعضهم البعض، يبدو لي أن مفهوم الغرب، والذي كما قلتُ في البداية أنه شيء قديم، يمكن في الواقع أن يكون في حاجة إلى إعادة إحياء عاجل في حالة ما إذا تعاملنا مع التحدي الذي يمكن أن يكون قد ثبت الآن بأنه ألفية صينية.
   عندما تحدّثتُ عن هذه الأمور في واشنطن، فدائما ما قيل لي: "نايل، إنهم يحتاجوننا بقدر ما نحن في حاجة إليهم" هذا ما أسميته بالصيغة الصينيو-أمريكية the chimerica formula وتعني أن الصين وأمريكا هما الآن في علاقة تكافلية من الاعتماد المتبادل، على كل حال، لا أظن أن ذلك يعد أمرا صحيحا حتى وإن كان صحيحا، فحينما استعملت مصطلح الصينو-أمريكي لأول مرة قبل أربعة سنوات من الآن، شعرت دائما بأنه من الطبيعي جدا إنّه كوكب عابر، لهذا كان مصطلح صينو-أمريكي مصطلح جذّاب بالنسبة إليّ، فهو تورية عن مصطلح آخر إنّه الوهم أو "الخرافة" Chimera
   يبدو لي أنّها حالة طارئة، ليس فقط في لندن أو باريس أو برلين بل في واشنطن كذلك، لإعادة تقييم الوضع باعتبار الصين تتزحزح من مرحلة تطورها "صينو-أمريكا" إلى شيء يبدو تماما أكثر إمبريالية "توسعا" بالنسبة لي، خيارنا في الواقع خيار نسبي، أو بالأحرى هو خيار ضيق.
   فإمّا يمكن أن تصبح سياسة الغرب موازنة لصعود الصين مع بعض الأحلاف الآسياوية كالهند التي ينبغي أن تلعب بوضوح دورا حاسما، أو أنّنا نحتاج إلى قبول ذلك، هذه ليست إستراتيجية مجدية قابلة للاستمرار، ولذلك يجب أن ننتقل إلى مصطلحات أخرى للتعامل مع صعود الصين من خلال نوع من الترضية "الاسترضاء" والتي من شأنها مثلا أن تخلصنا من إحدى المناطق الساخنة الموجودة حاليا، فالنَقل تايوان مثلا، فمن المفارقات وجود إلتزام أمريكي "بحماية تايوان" سيثبت قطعا أنّه يمكن أن يكون هناك اضطراب في حالة حدوث المواجهة.

   على كل حال فإنّ الحجة التي أريد أن أضعها هذه الأمسية هي أن الستاتيكو عبارة عن وهم . الصينيو-أمريكيthe chinerica  صيغة ميتة، ونحن الآن ندخل عالما جديدا والذّي سيحل -حسب ما أعتقد- العام المقبل بعد تغيير القيادة في البلدين، سوف تكون الصين أكثر حزما تماما وأقل هدوءا بالكامل بخصوص صعودها هذا … آمل هنا في الشاتهام هاوس أن العقول بدأت تستوعب بشكل جدي هذا الإشكال، وماهية آثاره على مستقبل السياسة الخارجية البريطانية.
   بالنسبة لي فإنّ الأخبار المزعجة هي أنّه لا يسعني أن أرى أي مؤشر على قرب حدوث هذا الأمر في الولايات المتحدة الأمريكية .



   للإطلاع على النص الأصلي أنقر على الرابط الموالي :

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق