الأربعاء، 15 أغسطس 2012

سوريا في مهب التحولات الدولية .. دراسة جيوبوليتيكية نظرية .

سوريا في مهّب التحولات الدولية .
دراسة جيوبوليتيكية نظرية ..
*جلال خشيب : 07/08/2012

تمهيد :
   "من الممكن أن نهاية الحرب الباردة ستعوض بمجموعة واسعة ومتعددة من الحروب الباردة الصغيرة بين القوى الكبرى". ... لقد كان صاموئيل هنثينغتون محقا حينما عبّر بصيغته هذه عن التحدّي الجديد الذّي سيواجهه النظام الدولي الجديد المنبثق عن حرب باردة انتهت بانتصار الليبرالية الغربية بتزعم مطلق للولايات المتحدة دون أن ينتهي معها منطق التاريخ ، فالديناميكية من خاصية البشر و سيادة الانسان لا تُحجمه عن فعل التنافس و منطق تواصلية الصراع من أجل الاعتراف كما يعبّر عن ذلك إكسيل هونيث في نقديته الجديدة امتدادا للنزعة النيتشوية الرافضة لمنطق السكون البشري و القناعة الإنسانية..

   فمنذ تفكك المنظومة السوفياتية شهد حقل الدراسات الدولية تحوّلات كبيرة سواء تلك المرتبطة بالنَزَعات التنظيرية الجديدة الثائرة على المنظور الوضعي أو بتلك المرتبطة بمنهجية التحليل و مستوياته و أدواته المعرفية .. فمن هذه التحوّلات أنّنا أصبحنا نبدي اهتماما أكبر بالأنظمة الإقليمية و مستوياتها التحليلية  بدلا من الارتهان لمنطق النظام الدولي الذي كان منطقا متناسبا بحق مع ما شهدته الساحة الدولية منذ الحرب العالمية الأولى من ديناميكية تسارعية  .. فانتهاء الحرب الباردة لم يكن في الحقيقة إلاّ بداية لحقبة جديدة من التنافس الدولي ، إذ لم تكن مقولة النظام الدولي الجديد - بزعامة أمريكية مطلقة- و التي بشّر بها تشارلز كروثامر إلاّ وصفا لفترة زمنية قصيرة جدّا من بهجة الانتصار ، فلم يكن هذا النظام الجديد إلاّ مرحلة انتقالية تحوّلية في مسار بنية النظام الدولي نحو التعدد ، فالافرازات الجديدة للحرب الباردة لم تكن كإفرازات سابقاتها من الحروب ، تحوّلات بنيوية على جميع المستويات ، قوى دولاتية إقليمية ، فواعل غير دولاتية "مايكروسكوبية" مؤثرة ، انتهاء مفعول الثلاجة و صعود الأديان و تأثير خطاب الإديولوجيات ، تفجّر النزاعات الإثنية ...إلخ  ممّا جعل كل طرف في هذا العالم طرفا "حسّاسا" فاعلا و متأثرا في نفس الوقت "مفعول الفراشة" ... كل ذلك ساهم في بلورة جديدة لمفهوم الأمن المتجاوز لمنطق الدولة الصلب ..
   و لم تكن منطقتنا العربية إلاّ ساحة من ساحات هذه الحروب الصغيرة في هذا العالم الجديد إن لم تكن أهم المناطق على الإطلاق ..
1-المستوى الدولي :
   لا أحد يساوره الشك في مفتاحية المنطقة العربية بمشرقها و مغربها في مشروع الخطة الأمريكية الكبرى كمنطقة ارتكاز في بعض مناطقها التّي غدت جزءً لا يتجزأ من الأمن القومي الأمريكي ، لذا كان أي تهديد أو خطر يمّس هذه المناطق يعّد بمثابة تهديد للأمن القومي الأمريكي ممّا يستدعي مواجهته بحزم ، لذا فقد عملت الأخيرة على نسج شبكة معقدة من الحلفاء هناك خاصة منذ الاجتياح العراقي للكويت و الذّي زاد قناعة الأمريكيين في ضرورة التواجد الميداني لقواتهم هناك ممّا حوّل جزءً حسّاسا من المنطقة إلى ما يشبه بالمحمية الأمريكية العسكرية بحكم الواقع و منطقة عسكرية متقدمة من التراب الأمريكي شنّت إنطلاقا من قواعدها حروبها العالمية على الإرهاب فيما بعد ، تلك الحروب التّي سرّعت عملية التحوّل في بنية النظام الدولي ..
   في مقال سابق جاء تحت عنوان "فلسفة الإستراتيجية الأمريكية" حاولنا أن نبيّن في احدى فصوله تلك النزعة الثورية في السياسة الخارجية التّي تبنتها إدارة المحافظين الجدد في الولايات المتحدة منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر محطمين بذلك ما أسميناه "بالستاتيكو المقدس" و ما تبعه ذلك من آثار سلبية على وضع الهيمنة الأمريكي على النظام الدولي المتشكل ، إذ لم تكن حروبهم في أفغانستان و العراق و القوقاز و أزماتهم الدولية مع كوريا الشمالية و إيران و في أوكرانيا .. وكذا حروب حلفائهم الاسرائيليين في المشرق العربي " حرب 2006 على لبنان و كذا حربهم على غزة 2008 " إلاّ على حساب الإرادة الامريكية في إطالة زمن الهيمنة قدر المستطاع ، و بقدر ما كانت الولايات المتحدة الأمريكية تُعاني شبح الانفلات كانت قوى أخرى صاعدة من أكثر المستفيدين ، فأي انفلات للهيمنة يعني توّجه النظام الدولي إلى صيغة أخرى أقرب للتعدّد منها إلى الانفراد ، تعدّد تفرضه قوى إقليمية و دولية أخرى بحكم الواقع تقف روسيا و الصين على رأسها و تتدافع فيها أخرى صعودا على المستوى الإقليمي كالهند ، تركيا ، إيران ، البرازيل و المكسيك .. لذا فقد تعالت أصوات أكاديمية و أخرى سياسية داخل الأروقة الأمريكية بضرورة تدارك الوضع و تصحيح مسار السياسة الخارجية الأمريكية تكتيكيا تناسبا مع هدفها الأكبر .. إدامة حقبة التفوق الأمريكي ما أمكن ..
   لقد كانت المنطقة العربية –لاسيما مشرقها- من أكبر المتضررين من هذه السياسة الخارجية الأمريكية الثورية المحافظية الجديدة لكن و بالرغم من الانتهاء الرسمي لحقبة المحافظين الجدد إلاّ أنّ ملامح سياستهم لا تزال بادية في إدارة أوباما الجديدة ، إذ لا يزال منطق الاستقطاب السياسي الإقليمي يطبع المنطقة ، فلا تزال الولايات المتحدة و حلفائها في اسرائيل و الخليج تقف في مواجهة دول مارقة كإيران و سوريا و حلفاءهما في لبنان و الأراضي الفلسطينية المحتلة .. أمّا المستحدث فطرأ على مستويين : تنامي الدور الروسي في علاقاته مع "هؤلاء المارقين" الذين يزدادون تصلبا و عنادا على قلب موازين المنطقة في غير الصالح الأمريكي ثم محاولة كل من تركيا أوغلو و قطر الجزيرة لعب دور إقليمي ما ... ممّا جعل المنطقة المشرقية بأكملها مخترَقة من قبل قوى أخرى غير الولايات المتحدة ، في حين يُخترق غربها "المغرب العربي و كامل افريقيا" من قبل قوة دولية أخرى اسمها الصين ... اذن فكل الجهود الأمريكية في توطيد دعائم تواجدها الانفرادي هناك عبر شبكة حلفاء دولاتيين "أنظمة عربية حليفة" و غير دولاتيين في هكذا مناطق إرتكازية آيلةٌ إلى التراجع و الاختراق ممّا يستدعي ضرورة الإقدام على خطوة حاسمة تقطع الطريق أمام هؤلاء المنافسين الجدد الصاعدين ..

* الثورات العربية و انتقائية التغيير :

   في كتابه الأخير "الإسلام و الصحوة العربية" يذكر البروفيسور طارق رمضان أستاذ الدراسات الإسلامية المعاصرة في جامعة أكسفورد بشيء من التفصيل كيف حاولت الولايات المتحدة الامريكية استغلال الاحتقان الشعبي على أنظمة الاستبداد العربية بعد عقود طويلة من القهر و التدهور الاجتماعي و انسداد أفق الحرية و الديمقراطية التّي كانت تدعو إليها الولايات المتحدة و من وراءها هذه الانظمة و نخبها السياسية و الفكرية ، و قد مهدّت لذلك منذ سنة 2004 من خلال عمليات تكوين شبانية لمدونيين و شباب عرب في مراكز بوبوفيتش "كانفاس" و مثيلاتها في صربيا و ما جاورها ... و قد كانت حادثة الشاب البوعزيزي القطرة التي أفاضت الكأس و أشعلت نار الفتيل لانتفاضات شعبية هدفها الوحيد هو التخلص من طوق الاستبداد السياسي النظامي تأسسا لنهضة بنيوية في هذه المجتمعات .. اذ بدأت الثورة في تونس و انتهت بهروب الرئيس بن علي ، و امتدت لمصر فأسقطت آخر فراعنتها ،  اشتعلت في اليمن فأبعدت صالحا و كانت جذرية و عنيفة في ليبيا بعد تدّخل الناتو في حين قُمعت في المهد في كل من السعودية و البحرين ، و حاولت بعض الأنظمة السياسية امتصاصها و عزلها مثلما حدث في الجزائر و المغرب الأقصى .. و قد بدى جليا انتقائية الموقف الأمريكي تجاه هذه الانتفاضات وفقا لمصالحها و مصالح حلفائها ، كما بدى أيضا ذلك التنافس المحموم بين الولايات المتحدة التّي تحاول إحداث وضع جديد متحكم فيه لصالحها و بين قوى أخرى على رأسها روسا في المحافظة على وضع قائم يكفل مصالحها في المنطقة ، و بما أنّها خسرت وضعا مناسبا في ليبيا بشكل حاسم و مذّل على يدّ الناتو كذراع عسكري للولايات المتحدة فإنّها تأبى اليوم هزيمة مذّلة أخرى في معاقلها العربية الأخيرة سوريا ، و هنا سيتوقف مقالنا قليلا لمحاولة تكوين فهم "فوقوي" لما يحدث على الساحة السورية المشتعلة ...

2-  سوريا و التنافس الروسي الأمريكي :
كيف نفسّر ما يحدث على الساحة السورية من تنافس ؟
لماذا كل هذا الدعم الروسي المستميت لنظام بشار الأسد في سوريا ؟
هل ستفقد روسيا آخر قلاعها الحصينة في المشرق العربي ؟
    يرى البروفيسور سانتورو رئيس معهد الدراسات السياسية العالمية في ميلانو أن الإنسانية في وقتنا الحاضر تدخل مرحلة انتقالية من العالم الثنائي القطبين إلى الصيغة العالمية من تعدد الأقطاب، والتي تبدو –حسبه- أنها تعكس المنطق الهرم للجيوبوليتيكا الثنائية القطبين –أي التيلوروكراتيا في مواجهة التالاسوكراتيا- فبالرغم من سقوط الاتحاد السوفياتي، إلا أن العالم كله لا يزال يحمل الطابع الثابت للحرب الباردة والتي يبقى منطقها الجيوبوليتيكي مسيطرا... لذا فقد تنبأ الرجل بأنّ العالم سيشهد حروبا من المستوى الصغير و المتوسط ستؤدي إلى تشكّلات جيوبولتيكية جديدة  .
فهل ستكون سرويا ساحة لجرب جيوبوليتيكية جديدة بين الكبار ؟

   في الحقيقة لم نجد إلى الآن أحسن من الأنموذج القياسي الواقعي في تفسير ما يحدث من تفاعلات بين القوى الكبرى على الساحة السورية ،  فبعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها كتب جورج كينان سنة 1947 تقريرا للإدارة الأمريكية آنذاك يحاول فيه أن يرسم إستراتيجية متماسكة لمواجهة الحليف السوفياتي القديم و قد عرفت بإستراتيجية الإحتواء و هي فكرة جيوبولتيكية محضة تحثّ الولايات الأمريكية على التمركز في نقاط معينة من البر الأوراسي سواءً عبر قواعد عسكرية أو أحلاف مركزية أو أنظمة صديقة ، هدفها الأساسي محاصرة "قلب الأرض" الأوراسي و دفعه إلى الداخل ما أمكن تجنبا لتمدّده خارج حدوده السياسية تمهيدا لفكيكه من الداخل ... تزامنا مع ذلك صدرت نظرية الواقعي الأمريكي نيكولاس سبيكمان عن حافة الأرض أو الإطار" the rim land "  حيث يشير إلى المناطق –الهلال- التي تحيط بقلب الأرض "الروسي" وتحفه، ولهذا سميت بالإطار أو حافة الأرض، والذي يضم كل من أوروبا البحرية "الغربية" والجزيرة العربية بما فيها العراق والهند وجنوب شرق آسيا ثم الصين وشرق سيبيريا، إنه بعبارة أخرى، الحدود البحرية للقارة الأوراسية من شرق سيبريا إلى غرب أوروبا .. وتمثل حافة الأرض "الريملاند" المجال المركب الذي يتسم من حيث الاحتمال بإمكانية أن يكون جزءا من التالاسوكراتيا –أي القوة البحرية- أو التيلوروكراتيا – أي القوة البرية- ، وهو المنطقة المعقدة والزاخرة بالثقافة، وتأثر البيئة البحرية "القوة البحرية" في المنطقة الساحلية فتثير فيها التطور الفعال والديناميكي، كما أن للكتلة القارية "التيلوروكراتيا" ضغوطا عليها، وصراع التالاسوكراتيا – الأطلسية الجديدة- والتيلوروكراتيا –روسيا الجديدة- ، على الريملاند ليس تنافسيا من أجل الاستحواذ على موقع استراتيجي عادي، وإنما على ما يعتبره سبيكمان مفتاح السيطرة العالمية، فحافة الأرض الأوراسية بالنسبة له أكثر أهمية من قلب الارض " أو لنقل المساحة التي تسيطر عليها روسيا" و من يسيطر على حافة الأرض سيسيطر على قلب الارض و من يسيطر على قلب الارض سيحكم العالم ... و أخيرا يعتبر سبيكمان أنّ الريملاند بمثابة منطقة حاجزة تفصل بين القوى المتصارعة البرية والبحرية، في زمن السلم، كما تعتبر منطقة التقاء و تصادم Crush Zone بين القوى البحرية والبرية في زمن الحرب ...
   بناءً على ذلك فقد عملت روسيا  منذ مجيء بوتن للسلطة على استدراك ما اعتبره الكثيرون خطأ القرن الإستراتيجي أي قرار غورباتشوف بحل الإتحاد السوفياتي ، فمنذ ذلك الوقت و روسيا تعاني أزمة جيوبوليتيكية تهدّد أمنها القومي بفعل الإمتداد الأطلسي إلى جوارها القريب ، لذا فالإستراتيجي بالنسبة لروسيا اليوم و الأكثر إلحاحا الآن هو الحرص على تحويل "الأراضي الساحلية" إلى حلفاء لها عبر التغلغل الاستراتيجي إلى هذه المناطق و إقامة أحلاف متينة في مواجهة السطوة و التمدّد الأطلسي الجديد ... لذا ينبغي عليها التحرك شرقا و غربا لتحقيق هذا التكامل الأوراسي القاري فيصبح بذلك الريملاند ضرورة لروسيا لتصبح فعلا قوة جيوبوليتيكة قارية مستقلة ..
   لذا فقد حرص الروس على عدم التراجع أو التردّد في مواصلة هذه الإستراتيجية الكبرى و التّي تتطلب منهم امكانيات ضخمة لتفعيلها ن لذا أولت روسيا منذ مجيء بوتين اهتماما كبيرا بتحسين اقتصادها بدلا من تركيز كل الجهود في الصناعات الحربية الثقيلة و قد لاحظ الجميع تلك الديمقراطية الروسية "المضحكة" التي تقوم على تبادل الأدوار و تغيير الواجهة و حسب ، كل ذلك يهدف –في نظرنا- إلى استمرار خطة كبرى معينة أي استراتيجية واضحة في أذهان حكام الكريملين تهدف إلى استرجاع أمجاد روسيا القيصرية و الخروج بها من وضع الدفاع إلى وضع الهجوم لتأمين الأمن القومي الروسي البعيد ...
لقد كانت الحرب الجورجية الأخيرة –أوت 2008- مثالا جيدا لما يمكن أن يصل إليه التنافس الجيوبوليتيكي بين روسيا التيلوروكراتيا وأمريكا التالاسوكراتيا و قد كانت ساحتها هذه المرّة منطقة القوقاز، فالمشاريع الجيوبوليتيكية والإستراتيجية للقوتين بلغت حدًّا من التناقض والتضارب الذي يجعل القنوات الدبلوماسية والسياسية تقف عاجزة عن تجاوزه، ومع ضيق الزمن، وحساسية المصالح وتقلص الخيارات، تبرز الحرب كوسيلة حتمية ووحيدة لتجاوز هذا التناقض أو بلوغ تلك المصالح، هذا هو النوموس الذي خلده كلاوزفيتز في مقولته الشهيرة : " الحرب هي إمتداد للسياسة بوسائل أخرى " ...
لم تكن الحرب الجورجية هذه، مواجهة مباشرة بين المديان الكبيران، رغم ذلك تعد علامة فارقة وإحدى أهم خطوات الاتجاه نحو الانتصار الجيوبوليتيكي لأحد هذان المديان، فمنافستها المحمومة على القوقاز رشّح هذه المنطقة إلى مصاف المناطق الإرتطامية، وكانت جورجيا بذلك-في هذه المرحلة بالذات- بمثابة جسر المرور الأكيد والمجال الحتمي للمعركة الساخنة والباردة بين قطبي القوى والذي لا يمكن لأحدهما أن يصل إلى الآخر إلا بالمرور عبره والتباري في ملعبه .. و قد انتهت هذه الحرب بضربة موجعة وجهّها البر الأوراسي للتلاسوكراتيا الأمريكية  و خرجت منها موسكو متنمّرة ، بل جرى الحديث آنذاك أنّ الحرب الجورجية الأخيرة كانت بداية لنهاية الأحادية الأمريكية و تمهيدا لنظام دولي متعدّد الأقطاب تحتل فيه روسيا العائدة مكانة الكبار .. و إذا كانت جورجيا قد احتلت قبل سنوات قليلة مركز التجاذب كمنطقة صدام في عُرف الجيوبوليتيكا فإنّنا نرّشح سوريا لتكون اليوم ساحة تجاذبات إقليمية و منطقة إرتطام جيوبوليتيكة بين المديان الجيوبوليتيكيان الكبيران .. إذ يرى سبيكمان في تحليله من أن مركز الدولة في إطار السياسة الدولية، لا يتوقف من الناحية الجيوبوليتيكية، على موقعها الثابت، وإنما يعتمد أيضا وإلى حد بعيد على علاقة هذا الموقع بمراكز القوى المؤثرة في السياسة الدولية، ولما كانت مراكز القوى هذه في حالة تغير لأسباب عديدة، فإن قيمة الموقع الجغرافي للدولة هو الآخر يتغير، ليس من الناحية الجغرافية، وإنما من حيث طبيعة التفاعلات السياسية، بعبارة أخرى أن التفاعلات السياسية وتغير مراكز القوى الدولية تؤثر على القيمة السياسية للموقع الجغرافي.

   و بهذا المفهوم فإنّ سوريا تُعّد اليوم وفقا للإستراتيجية الأمريكية جزءً حساسا من حافة الارض لمحاصرة روسيا من جهة الجنوب الغربي و الحيلولة بينها و بين المياه الدافئة لذا فإقامة أنظمة حليفة في مناطق حساسة كهذه –و التّي تمثل دفاعات متقدمة للأمن القومي الروسي- مطلب أمريكي ملّح  .. إضافة إلى ذلك فإنّ سوريا اليوم تعّد دولة إرتكازية - pivotal states – على حدّ تعبير البروفيسور بول كينيدي في احدى مقالاته عن الإستراتيجية الأمريكية –إلى جانب جورجيا في القوقاز -  لذا فأهمية المنطقتين بالنسبة للطرفين يجعل من المنطقتين بالمفهوم الجيوبوليتيكي منطقتي ارتطام ...
   فلنأتي الآن لنملئ الفجوات .. في 2011 ألقى البروفيسور نيل فرغيسون أستاذ الدراسات التاريخية في جامعة هارفرد محاضرة في الشاتهام هاوس البريطاني  تحت عنوان : " الغرب و البقية ، تحولات ميزان القوى العالمي في المنظور التاريخي " تحدّث فيها عن حقيقة الصعود الصيني و تزايد نفوذه الإقتصادي في إفريقيا و ما يشكله ذلك من تهديد لمصالح الغرب و الولايات المتحدة مستقبلا ، و كما هو معلوم فإنّ القوتين الصينية و الروسية تتحركان بشكل متوازي في الجهة المقابلة للتحرك الأمريكي لذا كان لزاما على الأمريكيين أن يبادروا بالتحرك قبل فوات الأوان ، و هنا نرجع إلى الفكرة السابقة للبروفيسور طارق رمضان حينما نربط هذا الحراك الشعبي و نضعه في قالب بنيوي دولي .. فبعد تحالف دام عقودا من الزمن ها هي الولايات المتحدة اليوم تعمل على فكّ هذا الإرتباط بينها و بين بعض الأنظمة العربية التّي رعتها لعقود و الذّي أصبح تواجدها اليوم مضّرا بالمصلحة الأمريكية في المنطقة لذا فإنّ عملية تحريك توازنات المنطقة و إعادة تشكيل خارطتها السياسية أصبح مطلبا لابّد منه و ذلك في منحى يساعدها على تقويض القوى الصاعدة في الشرق لاسيما الصين و كذا روسيا ايضا ، إذ لا يريد الأمريكيين استمرار العلاقات الطيبة بين قوى الشرق و خزان العالم المستقبلي في إفريقيا و مناطق ارتكازها و المناطق التّي يتغلغل منها نفوذ الأعداء المنافسين في الشرق "روسيا و الصين"  لذا فتغيير الأنظمة في مناطق معينة سيساعد على كبح هذا النفوذ المتزايد لقوى الشرق قبل أن يستفحل هذا النفوذ ... و قد تزامن ذلك مع احتقان الشارع العربي لذا رأت الولايات المتحدة فرصة مواتية في ذلك عليها أن تتخذ معها قرارها الحاسم فراحت تدّعم وتموّل ثورات و تقمع أخرى قد تنشب في مناطق حسّاسة تحميها أنظمة موالية و حليفة أي منطقة الخليج العربي عموما ، السعودية على وجه الخصوص ... و بناءً على ذلك كان سقوط النظام السوري مطلبا أساسيا و ملّحا لكل من الولايات المتحدة الأمريكية و حلفاءها الخليجيين و خطا أمنيا دفاعيا متقدما و منفذا استراتيجيا هجوميا لكل من روسيا و الصين ... فهل سيحدث في سوريا ما حدث في القوقاز ؟ هل ستندلع الحرب قريبا ؟ أمّ أنّ الوضع السوري أكثر تعقيدا  و تداخلا ؟
إنّ الإجابة على مثل هذا السؤال يحتاج منّا إلى ومضات نظرية ؟

- إنّ الدول الكبرى لا تفكر في مدى قدرتها على شن الحرب و هزم العدو أكثر مما تفكر في تعبات هذه الحرب و تداعياتها ...
- الدول الكبرى توازن بين الأهداف و المصالح و بين نتائج السلوك السياسي أو قرار الحرب وفق مبدأ العقلانية -وإن كانت عقلانية جزئية كما اتفق على تسميتها باحثو العلاقات الدولية- ...
- الدول لا تتردد في الدخول في حروب لو رأت أن نتائجها الإيجابية البعيدة أفضل من النتائج السلبية البعيدة لقرار اللاحرب ...
- الدول لا تتوانى عن خوض الحروب إذا رأت أن أمنها القومي مهدّد و مفهوم الأمن القومي في الدراسات الأمنية لا يرتبط بالحدود الجغرافية للدولة و حسب كما هو معروف فلكل دولة أمنها القومي المتوافق مع نطاق تأثيرها و مصلحتها القومية ...
 - و أخيرا الدول الكبرى لا تتوانى عن خوض ما يسميه روبيرت جيلبين بحروب الهيمنة إذا رأت أن الحرب ستمكنها من انتزاع شاهد الهيمنة من المهيمن فأدركت أن الوقت صار مناسبا وأنّ المهيمن يفقد توازنه و يتداعى .. إذ يرى جيلبين أن المحافظة على مكانة الدولة المهيمنة يتطلب منها مصاريف هائلة للدفاع عن مواقعها، الأمر الذي يتم على حساب النمو الاقتصادي، هذا ما يعني أن قانون نسب النمو المتفاوتة (الغير متكافئة) يلعب عاجلا أم أجلا في صالح القوى الثانية والتي إن قدرت إحداها أن هذا النظام لا يلعب في صالحها وأن الفائدة المنتظرة تكون عبر تغيير هذا الوضع القائم فإنها لن تتردد في منافستها للقوة المهيمنة الشيء الذي ينتج عنه ما يعرف بـحروب الهيمنة و هي كما يعرّفها بأنّها :"حرب لا تتمحور فقط حول محاولة تحقيق أهداف مباشرة بل لامتداداتها وتحدياتها ذلك أنها تمس كل الوحدات الدولية المكونة للنظام".
لذلك فإن حرب الهيمنة هذه هي عبارة عن حرب شاملة هدفها وضع أسس جديدة لنظام دولي جديد، "صراع الهيمنة الذي ينتج عن اختلال التوازن المتزايد بين ما تملكه الدولة المهيمنة من إمكانيات وبين ما يتطلب من إمكانيات من أجل الحفاظ على النظام، هذا ما يؤدي في النهاية إلى ميلاد نظام دولي جديد".
   انطلاقا من هذه الومضات النظرية النيوواقعية يمكن القول أنّ الأزمة السورية بتعقيداتها الإقليمية تعّد ساحة حقيقية لانبثاق نظام دولي جديد ، فالولايات المتحدة تلعب اليوم دور المهيمن في حين تلعب كل من روسيا و الصين دور المتربص بتراجع هذا المهيمن ، فالخسائر الكبرى التي منيت بها الولايات المتحدة منذ إعلان مشروع القرن الأمريكي على أيدي المحافظين الجدد و الاضطرابات الإستراتيجية التّي أحدثها هؤلاء في غير الصالح الأمريكي جعل الولايات المتحدة اليوم في حالة اضطراب و تراجع نسبي ، و سمح في الوقت ذاته لكل من القوى الصاعدة أن تحاول إيجاد موطأ قدم مناسب لمكانتها الإقليمية أو الدولية ، فالتحالف الضمني بين روسيا و الصين تجاه الأزمات الدولية الكبرى سيصنفهما حتما للعب دور القوى المتربصة التي لن تتوانى في اختيار الوقت الحاسم لإحداث التغيير في بنية النظام الدولي بإعتبارها قوى تعديلية كما يصفها الواقعيون الهجوميون ، لكن كون الساحة السورية منطقة ارتطام جيوبوليتيكة كما قلنا لا يعني بالضرورة أن تكون ساحة لحرب مباشرة بين القوتين الكبيرين هناك فليس الأمر بهذه البساطة ، فمبدأ العقلانية كما أشرنا يقطع الطريق أمّام نشوب حرب مباشرة لا يمكن التنبؤ بتداعياتها ، فالواقعية لا تعني التهوّر كما يقول كيسنجر  ، فمنطق الردع النووي أو حتى الردع التقليدي لا يسمح بالحرب المباشرة –منطق العقربين في زجاجة كما يصف كلوزفيتز-خاصة في منطقة حساسة جدا متشابكة الأزمات ... إذن ما نتحدّث عنه هنا هو ما يسمى في أدبيات الدراسات الدولية بحروب الوكالة ..


3- المستوى الاقليمي :
في حالة ما إذا سقط النظام السوري - المتصدّع- :
هل ستنضم سوريا إلى قائمة الدول الفاشلة " failed states " ؟
و بالتالي هل ستتحوّل سوريا إلى مصدر للا أمن في المنطقة ، مصدرا مُصدّرا لمخاطر و تهديدات عديدة على دول الجوار ؟
هل ستفقد إيران عمقها الإستراتيجي في المنطقة ؟
هل سيحمل سقوط النظام السوري أولى بوادر الثورة الملوّنة الجديدة في إيران ؟
أم سيكون ذلك عاملا مشجعا على التفكير الجدّي في حرب جديدة في المنطقة في مواجهة إيران بعد إحكام الطوق الإستراتيجي عليها ؟

    لا تزال منطقة "الشرق الأوسط" تعاني إلى اليوم من تبعات سقوط النظام العراقي بعد الغزو الأمريكي للعراق سنة 2003 ، إذ تحوّلت العراق إلى ساحة حقيقية لصراع مصالح إقليمي لعب فيه التأجيج الطائفي الديني المتعمد دورا فعّالا في كسب هذا الطرف أو خسارة ذاك نقاطا على حساب الآخر ، فبعد أن استعملت السعودية و دول الخليج نظام صدام حسين لجعل العراق بوابة متقدمة لحماية أمن المنطقة ممّا أسموه بالمدّ الشيعي الصفوي منذ الثورة الإسلامية الخمينية في إيران ، ها هي تصطف إلى جانب الولايات المتحدة سنة 2003 لإسقاط هذا النظام الذّي صار يشكل تهديدا مباشرا لمصالحهم لا يقل عن التهديد الإيراني و ذلك منذ اجتياحه للكويت سنة 1991 ، لكن ما لم يحسب له هؤلاء بمساهمتهم الفعالة في إسقاط نظام صدام حسين سنة 2003 هو تسليمهم لبوابتهم القديمة لعدوهم و منافسهم القريب إيران في طبق من ذهب  فقد فتح سقوط النظام دولة العراق لتمارس فيها إيران نفوذها التّي لم تحلم به يوما ، لذا تطلّب ذلك من زعماء الخليج بذل مزيد من الإمكانات للإبقاء على نفوذهم هناك حمايةً لأمنهم الإقليمي ممّا حوّل العراق إلى ساحة لتجاذبات إقليمية بين القوتين مزقت حضارة بابل العريقة و حوّلت العراق إلى دولة فاشلة مصدّرة لمختلف المخاطر و التهديدات الامنية لكامل دول الجوار الإقليمي ..
   لا نعتقد أنّ عرب الخليج يتعلمون من دروس التاريخ أو لنقل أنّهم ينسونها بسرعة أو بعبارة أدّق فقد حسموا خيارهم الإستراتيجي منذ بناء أوّل قاعدة عسكرية أمريكية هناك ، و ها هم اليوم يجتهدون لإسقاط النظام السوري بنفس الطريقة التّي أسقطوا بها غريمهم الأوّل ... إذ تشهد المنطقة اليوم مناخا شبيها بمناخ ما قبل سنة 2003 ، عمليات شيطنة لنظام الأسد ، دعم خصومه في الداخل ، فتاوى سياسية جاهزة تستبيح دماء الأسد و أعوانه ، تمهيدا لقرار الحسم الذّي يصطف فيه هؤلاء إلى جانب حليفهم الأمريكي لإسقاط النظام السوري بطريقة ما .. و إذا كان عرب الخليج لا يستنبطون من دروس التاريخ عبرا و فوائد فإنّ الأمريكيين أكثر حذرا من هؤلاء ، إذ سيعّد هؤلاء حتّى الألف قبل اتخاذ أي قرار رسمي بتدخل عسكري أطلسي في سوريا للأسباب التّي وضحناها نظريا و تطبيقيا في الفصل السابق .. لذا فعملية حصر البدائل و قياس نتائجها كما تطرحه مقاربات اتخاذ القرار في السياسية الخارجية تبدو عملية صعبة جدّا و معقدة بالنسبة للولايات المتحدة  وإذا استبعدنا قرار التدخل المباشر كما حدث في ليبيا فإنّ عملية التفتيت من الداخل بأيدي غير أمريكية سيكون الأنسب و سيحمل الربيع العربي بشرى سارّة للسوريين ، و من هنا جاء خيار دعم المعارضة المسلحة في الداخل كأحسن بديل مطروح في هذه الآونة بعد أن مهّد له "الأصدقاء الخليجيين" بأموالهم و ألقوا بفتاوى شيوخهم وسط العامة من الشعب لذا ينبغي على أي متتبع حاذق أن يقرأ كلّ تأجيج طائفي عبر فتاوى السوء في هذه المرحلة بالذات من مسار الأزمة السورية بإعتباره ليس إلاّ امتدادا طبيعيا لصراع استراتيجي يحكمه عامل المصلحة بين قوتين إقليميتين في المنطقة "السعودية و إيران " ، سيكون الدين إذن -قياسا على مقولة كلاوزفيتس الشهيرة- امتدادا طبيعيا للسياسة بوسائل أخرى ... فكما ذكرنا  أنّ سوريا ستتحوّل إلى ساحة تجاذبات إقليمية حادة و مسرحا لتحقيق الأفضلية الأمنية للأمن القومي المتقدم لكل القوى الأطراف المتنافسة سواءً دولية متمثلة في " الولايات المتحدة و روسيا " أو إقليمية " السعودية و حلفاءها في مقابل إيران التّي ستجد نفسها معزولة إقليميا و هذا هو المقصد الأوّل من إسقاط النظام السوري ... فهو-إقليميا- مجرد مرحلة تكتيكية لهدف إستراتيجي يستهدف إيران ، و هنا نعيد التذكير بتنافس إقليمي آخر مترابط  بين الإيرانيين و الإسرائيليين ، الأولى كقوة إقليمية طامحة لاكتساب مزيد من القوة حسب تعبير جون ميرشايمر عن هدف الدولة ، و الثانية كقوة إقليمية تسعى بكل طريقة لحفظ البقاء حسب تعبير كينيث والتز "فبعد هدف البقاء قد تتعدّد أهداف الدول بأشكال متنوعة " ، فسقوط النظام السوري سيفقد إيران عمقها الإستراتيجي في المنطقة و يجعلها دولة حبيسة من ناحيتها الجنوبية و يغلق قنوات الاتصال بينها و بين حليفها في جنوب لبنان حزب الله كحليف متقدم على تراب عدو إسرائيلي منافس و سيحوّل سوريا إلى دولة عازلة –لصالح إسرائيل- كالأردن تماما و هذا يتطلب جهودا حثيثة لبثّ الاستقرار ما أمكن في سوريا قبل أن تتحول إلى دولة فاشلة مصدرة لأشكال لا متناهية من المخاطر و التهديدات على الإسرائيليين ، إذا فرهان الولايات المتحدة و حلفاءها في المنطقة يدور حول ردّ الفعل الإيراني بعدما يجد الإيرانيون أنفسهم في وضع حرج معزولين ، قد يكون البديل العقلاني المتاح أمامهم هو إعادة التفكير الجدّي في مشروعهم النووي و الكف عن لعب دور الممانع الشرعي للشيطان الأكبر فيحفظوا لأنفسهم الاستقرار و لنظامهم التماسك ... فهل سينحو الإيرانيون هذا المنحى في المستقبل القريب أم سيتمسكون بمطالبهم الشرعية النووية ليلعبوا وقتهم الأخيرة داخل التراب السوري طمعا في حفظ نفوذهم هناك كما فعلوها في العراق ؟ سيكون ذلك مرهونا بالخارطة السياسية التّي ستنبثق عنها الساحة السياسية ما بعد نظام الأسد الآيل إلى التصدع و السقوط ...
   لن نغادر هذا المستوى التحليلي حتى نشير في عجالة إلى ثلاث قوى إقليمية تنامى تأثيرها في الآونة الأخيرة أو سيتنامى قريبا :
الدور القطري عبر قناة الجزيرة  الإعلامية كدور مكمّل و متكامل مع الدور السعودي ..
النشاط غير المسبوق للسياسة الخارجية التركية تجاه المنطقة ..
و أخيرا الدور الذّي ستلعبه مصر الجديدة ..
   لقد كان لكل من القوتين الأولى و الثانية تأثيرا متباينا على الأزمة في سوريا و على الحراك الشعبي الحاصل عموما منذ ثورة الياسمين في تونس ، إذ حاولت دولة قطر المجهرية أن تلعب دورا إقليميا كبيرا من خلال القوة الإعلامية التّي مثلتها قناة الجزيرة التّي بدى في الآونة الأخيرة بشكل لا يدع مجالا للشك أنّها أصبحت امتدادا طبيعيا للسياسة الخارجية القطرية ، فالموارد التّي تملكها هذه الدولة في حجمها الصغير و حسن استغلال هذه الموارد سمح لها بأن تكون طرفا فاعلا في القضايا الإقليمية ، و إذا كانت توّجهات سياستها الخارجية تصب في نفس الاتجاه السعودي على العموم إلاّ أنّها في الحقيقة تسعى للعب دور منافس للسعوديين في مجلس التعاون الخليجي ، كما أنّها تبدو أقل معارضة و أكثر حماسة للصعود الإخواني الإسلامي في العالم العربي أكثر من السعودية مركز السلفية و الوهابيين الحامي الداخلي للنظام السعودي و الذّي يمنحه شرعية البقاء ... و هنا تتقاطع كل من قطر و تركيا ، فلا شك أنّ تراجع التيارات السلفية في العالم العربي لصالح غريمها الاسلامي الأوّل الإخوان المسلمين سيضعف التأثير السعودي على المنطقة لصالح التأثير التركي- القطري ، ما يهمنا هنا هو أثر هذا التنافس و تقاطع المصالح على ما يحدث في سوريا اليوم فإن التقى الجميع حول ضرورة رحيل نظام الأسد فسوف يختلفون عن طبيعة البديل  وولاءاته و اتجاهاته الخارجية و إن كان الجميع يعمل لقطع الطريق أمام إيران في سوريا فإنّهم سيتنافسون لأجل تشكيل الخارطة السياسية الجديدة التّي سينبثق عنها سقوط النظام السوري القائم ..
   أمّا بخصوص مصر الجديدة بقيادة الإخوان المسلمين فلا شكّ أنّ الموقع الجيوستراتيجي لمصر سيدفعها –بغض النظر عمن يحكمها- إلى لعب دور ما في القضايا الإقليمية العالقة ، و إن كانت القيادة الجديدة ستحاول الحفاظ على شيء من الإستقرار مع محيطها الإقليمي و كذا في علاقتها مع الولايات المتحدة حتّى تتمكن مصر أن تتعافى داخليا قبل أن تجازف بأي دور إقليمي قد يجلب عليها المتاعب في هذه الآونة الحرجة ، فإنّنا لا نستبعد أن يكون لمصر الجديدة دور فعّال في معادلة التنافس الإقليمي ، لذا فإنّ المنطقة ستشهد تغيّر في ميزانها الإستراتيجي ببزوغ خمسة قوى إقليمية مؤثرة لن يساوم أي منها على مكانته المستحقة في خارطة الغد : السعودية ، إسرائيل ، مصر ، إيران و تركيا ، لذا بإمكان مصر الجديدة أن تلعب الدور الذي لعبته بريطانيا في حقبة ما من تاريخ أوروبا لتكون حاملة الميزان الإستراتيجي في المنطقة ، كما بإمكانها أيضا أن ترّجح كفة هذا الطرف أو ذاك بشكل حاسم في حالة ما إذا حسمت خيارها الإستراتيجي مستقبلا ..



4- الرهان السوري ..
 بديلا عن الخاتمة :
   لا يمكن بأي حال من الأحوال فهم ما يجري داخل كرة البيلياردو السورية دون الاستناد إلى كل ما ورد سابقا ، و مع الانفلات الأمني الذّي يشهده الداخل السوري اليوم و فقدان النظام السوري شرعيته لدى أغلب الأوساط باعتباره المسؤول الأوّل عمّا أوصل سوريا إلى هذا الوضع كونه نظام سياسي مغلق يتغذى على القهر و يعيش على الاستبداد السياسي فقد أصبح الكل يحاول ركوب انتفاضة السوريين كل حسب مصالحه الأمر الذّي أغرق سوريا في الدماء ممّا أعاد إلى الأذهان السؤال الذّي كان يطرحه الجزائريون أثناء العشرية السوداء "من يقتل من ؟" ، إلا أنّ الوضع هناك أكثر تعقيدا و تداخلا ، فلا يكفي تسليط الضوء على القشرة الصلبة لكرة البلياردو و لا على بنية النظام الدولي و تعقيدات المصالح الإقليمية لتكوين فهم متكامل إذ علينا فهم التركيبة الإثنية بكل ما يحمله هذا المصطلح من معنى واسع –جميع خطوط الاختلاف و الانقسام البشري- حتّى نفهم التركيبة المابين ذاتانية في سوريا... نخشى أن تتحوّل اللعبة في سوريا إلى لعبة صفرية فمكاسب طرف لن تكون إلاّ مغرما للطرف المنافس ... لذا فالحلول التوفيقية ستكون صعبة جدا لكنها الحل الوحيد لتلاشي حرب مقبلة لو اشتعلت ستغيّر وجه المنطقة و لا أحد بإمكانه أن يتنبأ بانعكاساتها على بنية النظام الدولي في حالة تداعيها و انفلاتها فقد تفتح ملفات اخرى بين المتنافسين الدوليين و الإقليميين إما تحجيما للأزمة قبل تحولها لحرب ضروس أو ابتزازا و محاولة للحصول على مكاسب من جهة اخرى بين هؤلاء المتنافسين ...
   لذا ينبغي على النخبة السورية الجديدة التّي سترسم مشهد الحياة السياسية هناك أن تكون واعية لهذه التحديات و أن تسعى جاهدة لتكون عاملا مستقلا في المعادلة لا عاملا تابعا فيها تتجاذبه التيارات الإقليمية و الدولية لتجعله يصطف هنا أو هناك ، ينبغي على شرفاء سوريا أو يغتنموا محورية دولتهم و مكانتها الإقليمية و محلها من التنافس الدولي القائم ليستثمروا في ذلك لمصلحة دولتهم بشيء من البراغماتية الحميدة بدلا أن يحوّلوا سوريا إلى ساحة لتصفية حسابات إقليمية و تحقيق مصالح دولية لن يكون لسوريا أي نصيب منها على المدى البعيد ..

*جلال خشيب باحث مهتم بالدراسات الدولية و الإستراتيجية ، الجيوبوليتيكا و الفلسفة السياسية ، جامعة منتوري قسنطينة / الجزائر .

المراجع المعتمدة :
1-  دوغين ألكسندر، أسس الجيوبوليتيكا، مستقبل روسيا الجيوبوليتيكي، ترجمة: عماد حاتم، دار الكتاب الجديدة المتحدة، الطبعة الأولى 2004 ، بيروت-لبنان .
2-  فهمي عبد القادر محمد، المدخل إلى دراسة الإستراتيجية، دار مجدلاوي، الطبعة الأولى 2006، عمان-الأردن.
3-   صافي عدنان، الجغرافيا السياسية بين الماضي والحاضر، مركز الكتاب الأكاديمي، الطبعة الأولى أوت 1999، عمان-الأردن.
4-  الذيب محمد محمود إبراهيم، الجغرافية السياسية، منظور معاصر، مكتبة الأنجلو المصرية، الطبعة السادسة 2005، القاهرة-مصر.
5-    مصباح عامر، الاتجاهات النظرية في تحليل العلاقات الدولية، ديوان المطبوعات الجامعية، الطبعة الأولى 2006، الجزائر.
6-  نيل فرغيسون ، الغرب و البقية تحولات ميزان القوى العالمي في المنظور التاريخي ، ترجمة جلال خشيب ، موقعنا الخاص : http://philopoliticsbridges.yolasite.com
7-  جلال خشيب ، فلسفة الإستراتيجية الأمريكية ، مجلة الفكر الحر الإلكترونية، العدد 110 .
8-  مناظرة بين البروفيسور طارق رمضان و السيد سرجيا بوبوفيتش مدير مركز العمل غير العنيف و الإستراتيجيات التطبيقية في صربيا "كانفاس" . http://www.youtube.com/watch?v=wG5s62aV370&feature=share


9-      Russia in the Islamic World , Sergey Markedonov ,  national interst , June 27, 2012  http://nationalinterest.org/commentary/russia-the-islamic-world-7126


 








الثلاثاء، 5 يونيو 2012

صعود الإسلام و روح المدنية الغربية الجديدة .

 صعود الإسلام و روح المدنية الغربية الجديدة .
 جلال خشيب : 05/06/2012

    يعلّمنا منطق التاريخ ذلك التلاقح المستمر بين الحضارات و كذا ميراثها الثقافي ، و هذا الإحتكاك المستمر هو الذّي صنع إنسان اليوم ، و قد كان للإحتكاك المتواصل و الطويل بين العالمين الإسلامي و الغربي عبر قرون أثر كبير في إنتقال الأفكار بين ضفتي هذين العالمين ، و قد لعبت الحروب التاريخية بين الطرفين دورا إيجابيا في إنتقال هذه الأفكار و تلاقح الثقافات ، لتأتي حقبة العولمة فتعزّز هذا الإحتكاك و هذا إنتشار .. كما كان العالم الإسلامي في حقبة تارخية ماضية منارة مشّعة تُصدّر الأفكار التنويرية التحرّرية للعالم الغربي ، فقد جاءت المرحلة التّي إنقلب فيها منطق التاريخ و صار العالم الغربي مصدرا مروجا لكثير من الأفكار التحرّرية للعالم الإسلامي الذي عاش لفترة طويلة تحت نير الإستبداد و الإستعمار و ما إستتبع ذلك من سياسات التجهيل و التحطيم البنيوي المتعمدة ، و قد أحدثت الأفكار الواردة من الغرب هزّة بنيوية في المجتمعات الإسلامية لتنتقل عدوى الثورة الفكرية لعصر النهضة إلى العالم الإسلامي  الذّي وجد نفسه يناضل من جديد لتحديث الذات و المحافظة على أصالتها و تميّزها في نفس الوقت ، و إعادة إحياء مجد الأمة الغابر .
   و منذ إنتهاء حقبة الحرب الباردة تعالت الدعاوي الغربية إلى ما يُسمى بالعولمة ، عولمة الأفكار قبل كل شيئ ، فالموقع الصلب و المتفوق الذّي خرجت على إثره الحضارة الغربية منتصرة من الحرب جعلها تثق في قدرتها على تعميم أفكارها لتسود العالم بأكمله و تفرض نفسها كنموذج نهائي للفكر البشري ... إلاّ أنّ التاريخ لم ينتهي بعد ، فقد شهد العالم صعود ثقافات متعددة تبنّت في الغالب إستراتيجيات حمائية خوفا من الإندثار تحت وطأة الثقافة الغربية التي أتاح لها إمتلاكها للتقنية إمكانية فرض نموذجها على شعوب العالم ... إلاّ أنّ نتائج العولمة و ما أفضت إليه من إجابيات الإنتشار لم تبقى حكرا على رُوّادها المنتصرين ، لقد أتاحت التقنية لكثير من ثقافات العالم العريقة أن تخرج بنفسها إلى العالم و تُذيب مفعول الجليد الذي أبقاها متقوقعة على الذات فترة طويلة من الزمن ، و من أكثر هذه الثقافات إستفادة من هذا الوضع كانت الثقافة الإسلامية و الدين الإسلامي ...
   في الحقيقة لقد ساهمت عدّة عوامل في احتلال العالم الإسلامي موقع الصدارة في عالم اليوم ، و لعّل أهمها رغبة الولايات المتحدة الامريكية –المنتصر الأول من الحرب الباردة- في تقويض دعائم القوى الصاعدة المنافسة بُغية إطالة عمر إمبراطوريتها الجديدة ، و قد تماهت جغرافية العالم الإسلامي مع مقتضيات المصالح و الأهداف الأمريكية كموقع جيواستراتيجي سيكون مسرح التنافس و بؤرة الصراع الدولي ... فالتربع الجغرافي العريض الذي يحتل وسط العالم ثمّ مركزية مركز العالم الإسلامي – الحجاز ، الشام و الأراضي المقدسة- في الثقافات الدينية المركزية الثلاث و كذا تفاعل الإنسان مع عامل الأرض و هدف المصلحة  كلها عوامل جعلت هذه البقعة من العالم تحتل مركز الاهتمام العالمي .
   و قد شكلّت أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 نقطة التحوّل الكبرى في  تاريخ العالم الإسلامي المعاصر ، فالحرب على الإرهاب و التطرف الديني المنبثق من هذا العالم الإسلامي كما صوّره لنا دعاة هذه الحرب ، ثمّ انتقال هذا التطرف و الإرهاب إلى مراكز الحضارة الغربية مع تواجد عدد كبير من المسلمين هناك كلها عوامل جعلت الإسلام كدين موضوع نقاش عالمي لا تخلوا منه جلسة فكرية أو نظرية سياسية أو فلسفية حديثة ، حيث أخذ الإنسان الغربي العادي يتسائل عن ماهية الإسلام ؟ من هم هؤلاء المسلمون ؟  ماذا يجري هناك ؟ و ما مصير مدنيتنا الحديثة أمام هذا المدّ الجارف ... و راح الباحث الأكاديمي يفكر في تأثير عامل الدين على الساحة السياسية و شكل الدولة و كذا تأثيره على العلاقات الدولية  و عالم اللاهوت في ثنائية الحوار أم الصراع بين الأديان ؟ و الفيلسوف في عودة الجدل القديم بين الدين و العقل بعدما إستتبت العلمانية و رسّخت جذورها كمنظومة حياة مقدسة ناضلت لأجلها هذه الحضارة عقودا طويلة و دفعت بسببها آلافا مؤلفة من الأرواح .
   و لم يتوقف الجدل القائم حول الإسلام عند التفكير فيه كموضوع مستقل عن مشاكل الحضارة الغربية ، بل تعدى ذلك إلى الحديث عمّا يدعو إليه هذا الدين من قيم روحانية عملياتية بإمكانها أن تساهم في انعتاق المدنية الغربية و تخلصّها من الإشكاليات الناتجة عن العادات السيئة للعقلانية المفرطة و المدنية المادية المنبثقة عن مفهوم الحداثة منذ أن أعلن نيتشه موت الإله في المخيال الغربي ، حيث ضمُرت القيم الأخلاقية و تآكلت إنسانية الإنسان و شيئنة الحداثة هذا الإنسان و حوسلته  مُخلفة وراءها مشاكل بنيوية عانت منها هذه المدنية من تفكك الأسرة و الإباحية الجنسية التي تنخر بنية المجتمع الغربي و تساهم في تآكله من الداخل إلى انتشار ظاهرة الإلحاد والانتحار و المخدرات و الجريمة و غيرها من المشاكل البنيوية التّي يُلخصها بيرجانسكي في كتابه الفوضى .
   لقد دقت هذه الإشكاليات الجادة ناقوس الخطر هناك و انبثقت على إثرها تيارات فكرية من داخل المجتمعات الغربية تدعو إلى ضرورة تدارك الوضع  قبل فوات الأوان ، و قد حاول أصحابها استرجاع مفهوم القيم و إيلاء الاهتمام لمفهوم الخطاب محاولة إحداث هزة جديدة في الفكر الغربي لأنسنة الإنسان من جديد بل و أنسنة هذه الحضارة إجمالا .

ما موقع الإسلام من كلّ هذا الجدل ؟ 

   فبالإضافة إلى العوامل السابقة التّي  أدّت إلى تصدر العالم الإسلامي للمشهد السياسي و الثقافي العالمي ، جاء عامل الهجرة و المهاجرين ليُدعم هذه العوامل ، فقد سُلط الضوء من جديد على المسلمين المقيمين هناك سواءً من الجيل الأول أو الثاني المتجنسين أو المهاجرين الجدد أيضا ، و قد عملت وسائل الإعلام الغربية على ترسيخ صورة نمطية عن ماهية المسلم ، وثار الحديث عن تصنيفات معينة لهؤلاء المسلمين كلفظ الإسلاميوي و المسلم المعتدل و المتطرف و الإرهابي و كذا الحديث عن الوهابية و الرجعية و الإسلاموفوبيا و قرون الظلام الوسطى ذات السمعة السيئة في المخيال الغربي ، ليعيش المسلمون في حالة من الخوف و التربص و اللأمن و كأن سيناريو اليهود المضطهدين في بقاع الأرض يتكرّر من جديد و لكن هذه المرّة يلعب فيه المسلمون دور البطولة ... لم يرق لكثير من هؤلاء -من العاملين على ترسيخ هذه الصورة النمطية-  تلك المظاهر و الشعائر الإسلامية المتنامية الحضور ، و بدأ الحديث عن تهديد وشيك يمّس قيم المدنية الغربية الحديثة أحد أهم منجزاتها "هي الحرية ، الديمقراطية و العلمانية" ، تهديد تتسبّبُ فيه مآذنٌ و مساجد و حجابٌ و برقع و لحية ، حتّى أمتد النقاش إلى دوائر السلطة السياسية ، فهل سماح الدولة لهؤلاء المسلمين بممارسة شعائرهم الدينية بحرية و نيل حقوقهم المدنية و الشخصية سيمّس بعلمانية الدولة ؟ كان هذا جوهر الخلاف السياسي القائم و الذّي صار مطية لكثير من الأحزاب السياسية من مختلف الأطياف و غنيمة دسمة لها لتحظى بشرعية لدى طبقات المجتمع وتعزّز بذلك حظوظها في الوصول إلى السلطة ، ممّا يعني أنّه أصبح بإمكان المسلمين هناك أن يؤثروا تأثيرا فاعلا على خيارات السلطة السياسية في الدول الغربية ، و هذا هو ما نريد الوصول إليه هنا ، هل سيكون تأثير وجود المسلمين هناك مرشحا للصعود ؟ و كيف سيأثر ذلك على الخارطة السياسية الداخلية للدولة المعنية ؟ و ما مدى تأثير وجود المسلمين هناك على بنية المجتمع الغربي ؟
   تُقدّر إحصائيات سنة 2009 أنّ عدد المسلمين في أوروبا يقارب 43 مليون نسمة شاملة المسلمين في روسيا وكذلك الجزء الأوروبي من تركيا بينما يبلغ عدد سكان أوروبا إجمالا 750 مليون بدون حساب عدد سكان روسيا الإجمالي, ومن المتوقع أن تصل نسبة المسلمين في أوروبا إلى حوالي 9.1 بالمئة من سكان أوروبا عام 2050 ، و لعل أهم سبب لهذه الزيادة هو ذلك التدفق المستمر للمهاجرين المسلمين و كذا إنخفاض معدل المواليد الأوروبيين و إرتفاع نسبة الشيخوخة بين الأوروبيين في مقابل إرتفاع معدل المواليد بين المسلمين ثم إعتناق كثير من الأوروبيين للدين الإسلامي .
و في مقال له في صحيفة النيويورك صن سنة 2004 يأتي دانيال بايبس الباحث الأمريكي المعروف بتوجهاته الصهيونية بمجموعة من الأرقام ليرعب بها الغرب من الخطر الإسلامي المحدق بهم و يدفعهم إلى تبني إستراتيجية هجومية صدامية مع العالم الإسلامي ، و سنستعير هنا هذه الأرقام فقط لنبين تنامي وجود المسلمين هناك ، حيث يرى أن سكان أوروبا الأصليين يتضاءل عددهم يوماً بعد يوم ، ويشير إلى أنّ إحصاءات الإتحاد الأوروبي ترى أنّ النسبة المطلوبة للحفاظ على عدد سكان أوروبا الحالي يتطلب نسبة ولادة تبلغ 2.1 للمرأة الواحدة ، في حين أن النسبة الحالية هي 1.5 وهي آخذة في التدنّي ، كما يشير إلى دراسة ترى أنّ سكان أوروبا سيتدنى عددهم من 375 مليون نسمة الى 275 في عام 2075 إن لم تستمر الهجرة إلى البلدان الأوروبية ، ويحتاج الإتحاد الاوروبي إلى 1.6 مليون مهاجر سنوياً ليحافظ على التوازن بين المواطنين العاملين والمتقاعدين ، أما الآن فإنّه يحتاج إلى 13.5 مليون مهاجر لتسوية النقص الحاصل من قبل ... إنّ نسبة 5 في المئة من الإتحاد الأوروبي، أو 20 مليون نسمة يعتبرون أنفسهم مسلمين، وإن استمرت الأمور على ما هي عليه ستصل النسبة إلى 10 في المئة في عام 2020 ، وإن تركت العناصر غير الاسلامية أوروبا فستصبح غالبية السكان من المسلمين في عقود قليلة ... "إنتهى كلامه" ... ما أشار إليه بايبس من أرقام تحدثت عنه كثير من التقارير الرسمية و غير الرسمية و كذا العديد من الدراسات الجادة التّي يذهب كثير منها إلى أنّ المسلمين قد يشكلون نصف سكان أوروبا بعد خمسين سنة .
   لنُلخص كلّ ما سبق لنصل إلى غرضنا من هذا المقال ... إذن تنامي التواجد الإسلامي في الغرب يُصاحبه مشاكل بنيوية تعاني منها هذه المدنية بفعل المخلفات السلبية للحداثة ، تتعالى معه أصوات أكاديمية و تيارات فلسفية من الداخل تنادي بالرجوع إلى قيم الروح و إعادة بعث الإله الذّي قتله نيتشه في الروح الغربية ... و هنا نرى أنّ التاريخ سيشهد منعرجا جديدا ترجع فيه قيم الإسلام لتُشع على أوروبا من جديد ، لقد صارت المدنية الغربية –ولا نقول الحضارة- بحاجة إلى روح  و روح المدنية الجديدة لن تكون المسيحية و إنّما ستكون قيم الإسلام ، لقد ناضل الغرب قرونا ليتحرّر من خرفات الكنيسة لا لشيئ إلاّ لإدراكه أهمية العقل في بناء الحضارة و الإنسان و في معرفة الله و الوجود ، و لن يجد هذه العقلانية إلاّ في دين يُعلي شأن العقل كدين الإسلام ، فحاجتهم إلى قيم الروح و الإيمان تتماهي هنا مع إرادتهم في التمسك بالمنجزات الإيجابية للعقل و العلم ... لذا ستشرق شمس الإسلام قريبا على الغرب ليشهد العالم بزوغ فجر روح مدنية جديدة .