الثلاثاء، 5 يونيو 2012

صعود الإسلام و روح المدنية الغربية الجديدة .

 صعود الإسلام و روح المدنية الغربية الجديدة .
 جلال خشيب : 05/06/2012

    يعلّمنا منطق التاريخ ذلك التلاقح المستمر بين الحضارات و كذا ميراثها الثقافي ، و هذا الإحتكاك المستمر هو الذّي صنع إنسان اليوم ، و قد كان للإحتكاك المتواصل و الطويل بين العالمين الإسلامي و الغربي عبر قرون أثر كبير في إنتقال الأفكار بين ضفتي هذين العالمين ، و قد لعبت الحروب التاريخية بين الطرفين دورا إيجابيا في إنتقال هذه الأفكار و تلاقح الثقافات ، لتأتي حقبة العولمة فتعزّز هذا الإحتكاك و هذا إنتشار .. كما كان العالم الإسلامي في حقبة تارخية ماضية منارة مشّعة تُصدّر الأفكار التنويرية التحرّرية للعالم الغربي ، فقد جاءت المرحلة التّي إنقلب فيها منطق التاريخ و صار العالم الغربي مصدرا مروجا لكثير من الأفكار التحرّرية للعالم الإسلامي الذي عاش لفترة طويلة تحت نير الإستبداد و الإستعمار و ما إستتبع ذلك من سياسات التجهيل و التحطيم البنيوي المتعمدة ، و قد أحدثت الأفكار الواردة من الغرب هزّة بنيوية في المجتمعات الإسلامية لتنتقل عدوى الثورة الفكرية لعصر النهضة إلى العالم الإسلامي  الذّي وجد نفسه يناضل من جديد لتحديث الذات و المحافظة على أصالتها و تميّزها في نفس الوقت ، و إعادة إحياء مجد الأمة الغابر .
   و منذ إنتهاء حقبة الحرب الباردة تعالت الدعاوي الغربية إلى ما يُسمى بالعولمة ، عولمة الأفكار قبل كل شيئ ، فالموقع الصلب و المتفوق الذّي خرجت على إثره الحضارة الغربية منتصرة من الحرب جعلها تثق في قدرتها على تعميم أفكارها لتسود العالم بأكمله و تفرض نفسها كنموذج نهائي للفكر البشري ... إلاّ أنّ التاريخ لم ينتهي بعد ، فقد شهد العالم صعود ثقافات متعددة تبنّت في الغالب إستراتيجيات حمائية خوفا من الإندثار تحت وطأة الثقافة الغربية التي أتاح لها إمتلاكها للتقنية إمكانية فرض نموذجها على شعوب العالم ... إلاّ أنّ نتائج العولمة و ما أفضت إليه من إجابيات الإنتشار لم تبقى حكرا على رُوّادها المنتصرين ، لقد أتاحت التقنية لكثير من ثقافات العالم العريقة أن تخرج بنفسها إلى العالم و تُذيب مفعول الجليد الذي أبقاها متقوقعة على الذات فترة طويلة من الزمن ، و من أكثر هذه الثقافات إستفادة من هذا الوضع كانت الثقافة الإسلامية و الدين الإسلامي ...
   في الحقيقة لقد ساهمت عدّة عوامل في احتلال العالم الإسلامي موقع الصدارة في عالم اليوم ، و لعّل أهمها رغبة الولايات المتحدة الامريكية –المنتصر الأول من الحرب الباردة- في تقويض دعائم القوى الصاعدة المنافسة بُغية إطالة عمر إمبراطوريتها الجديدة ، و قد تماهت جغرافية العالم الإسلامي مع مقتضيات المصالح و الأهداف الأمريكية كموقع جيواستراتيجي سيكون مسرح التنافس و بؤرة الصراع الدولي ... فالتربع الجغرافي العريض الذي يحتل وسط العالم ثمّ مركزية مركز العالم الإسلامي – الحجاز ، الشام و الأراضي المقدسة- في الثقافات الدينية المركزية الثلاث و كذا تفاعل الإنسان مع عامل الأرض و هدف المصلحة  كلها عوامل جعلت هذه البقعة من العالم تحتل مركز الاهتمام العالمي .
   و قد شكلّت أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 نقطة التحوّل الكبرى في  تاريخ العالم الإسلامي المعاصر ، فالحرب على الإرهاب و التطرف الديني المنبثق من هذا العالم الإسلامي كما صوّره لنا دعاة هذه الحرب ، ثمّ انتقال هذا التطرف و الإرهاب إلى مراكز الحضارة الغربية مع تواجد عدد كبير من المسلمين هناك كلها عوامل جعلت الإسلام كدين موضوع نقاش عالمي لا تخلوا منه جلسة فكرية أو نظرية سياسية أو فلسفية حديثة ، حيث أخذ الإنسان الغربي العادي يتسائل عن ماهية الإسلام ؟ من هم هؤلاء المسلمون ؟  ماذا يجري هناك ؟ و ما مصير مدنيتنا الحديثة أمام هذا المدّ الجارف ... و راح الباحث الأكاديمي يفكر في تأثير عامل الدين على الساحة السياسية و شكل الدولة و كذا تأثيره على العلاقات الدولية  و عالم اللاهوت في ثنائية الحوار أم الصراع بين الأديان ؟ و الفيلسوف في عودة الجدل القديم بين الدين و العقل بعدما إستتبت العلمانية و رسّخت جذورها كمنظومة حياة مقدسة ناضلت لأجلها هذه الحضارة عقودا طويلة و دفعت بسببها آلافا مؤلفة من الأرواح .
   و لم يتوقف الجدل القائم حول الإسلام عند التفكير فيه كموضوع مستقل عن مشاكل الحضارة الغربية ، بل تعدى ذلك إلى الحديث عمّا يدعو إليه هذا الدين من قيم روحانية عملياتية بإمكانها أن تساهم في انعتاق المدنية الغربية و تخلصّها من الإشكاليات الناتجة عن العادات السيئة للعقلانية المفرطة و المدنية المادية المنبثقة عن مفهوم الحداثة منذ أن أعلن نيتشه موت الإله في المخيال الغربي ، حيث ضمُرت القيم الأخلاقية و تآكلت إنسانية الإنسان و شيئنة الحداثة هذا الإنسان و حوسلته  مُخلفة وراءها مشاكل بنيوية عانت منها هذه المدنية من تفكك الأسرة و الإباحية الجنسية التي تنخر بنية المجتمع الغربي و تساهم في تآكله من الداخل إلى انتشار ظاهرة الإلحاد والانتحار و المخدرات و الجريمة و غيرها من المشاكل البنيوية التّي يُلخصها بيرجانسكي في كتابه الفوضى .
   لقد دقت هذه الإشكاليات الجادة ناقوس الخطر هناك و انبثقت على إثرها تيارات فكرية من داخل المجتمعات الغربية تدعو إلى ضرورة تدارك الوضع  قبل فوات الأوان ، و قد حاول أصحابها استرجاع مفهوم القيم و إيلاء الاهتمام لمفهوم الخطاب محاولة إحداث هزة جديدة في الفكر الغربي لأنسنة الإنسان من جديد بل و أنسنة هذه الحضارة إجمالا .

ما موقع الإسلام من كلّ هذا الجدل ؟ 

   فبالإضافة إلى العوامل السابقة التّي  أدّت إلى تصدر العالم الإسلامي للمشهد السياسي و الثقافي العالمي ، جاء عامل الهجرة و المهاجرين ليُدعم هذه العوامل ، فقد سُلط الضوء من جديد على المسلمين المقيمين هناك سواءً من الجيل الأول أو الثاني المتجنسين أو المهاجرين الجدد أيضا ، و قد عملت وسائل الإعلام الغربية على ترسيخ صورة نمطية عن ماهية المسلم ، وثار الحديث عن تصنيفات معينة لهؤلاء المسلمين كلفظ الإسلاميوي و المسلم المعتدل و المتطرف و الإرهابي و كذا الحديث عن الوهابية و الرجعية و الإسلاموفوبيا و قرون الظلام الوسطى ذات السمعة السيئة في المخيال الغربي ، ليعيش المسلمون في حالة من الخوف و التربص و اللأمن و كأن سيناريو اليهود المضطهدين في بقاع الأرض يتكرّر من جديد و لكن هذه المرّة يلعب فيه المسلمون دور البطولة ... لم يرق لكثير من هؤلاء -من العاملين على ترسيخ هذه الصورة النمطية-  تلك المظاهر و الشعائر الإسلامية المتنامية الحضور ، و بدأ الحديث عن تهديد وشيك يمّس قيم المدنية الغربية الحديثة أحد أهم منجزاتها "هي الحرية ، الديمقراطية و العلمانية" ، تهديد تتسبّبُ فيه مآذنٌ و مساجد و حجابٌ و برقع و لحية ، حتّى أمتد النقاش إلى دوائر السلطة السياسية ، فهل سماح الدولة لهؤلاء المسلمين بممارسة شعائرهم الدينية بحرية و نيل حقوقهم المدنية و الشخصية سيمّس بعلمانية الدولة ؟ كان هذا جوهر الخلاف السياسي القائم و الذّي صار مطية لكثير من الأحزاب السياسية من مختلف الأطياف و غنيمة دسمة لها لتحظى بشرعية لدى طبقات المجتمع وتعزّز بذلك حظوظها في الوصول إلى السلطة ، ممّا يعني أنّه أصبح بإمكان المسلمين هناك أن يؤثروا تأثيرا فاعلا على خيارات السلطة السياسية في الدول الغربية ، و هذا هو ما نريد الوصول إليه هنا ، هل سيكون تأثير وجود المسلمين هناك مرشحا للصعود ؟ و كيف سيأثر ذلك على الخارطة السياسية الداخلية للدولة المعنية ؟ و ما مدى تأثير وجود المسلمين هناك على بنية المجتمع الغربي ؟
   تُقدّر إحصائيات سنة 2009 أنّ عدد المسلمين في أوروبا يقارب 43 مليون نسمة شاملة المسلمين في روسيا وكذلك الجزء الأوروبي من تركيا بينما يبلغ عدد سكان أوروبا إجمالا 750 مليون بدون حساب عدد سكان روسيا الإجمالي, ومن المتوقع أن تصل نسبة المسلمين في أوروبا إلى حوالي 9.1 بالمئة من سكان أوروبا عام 2050 ، و لعل أهم سبب لهذه الزيادة هو ذلك التدفق المستمر للمهاجرين المسلمين و كذا إنخفاض معدل المواليد الأوروبيين و إرتفاع نسبة الشيخوخة بين الأوروبيين في مقابل إرتفاع معدل المواليد بين المسلمين ثم إعتناق كثير من الأوروبيين للدين الإسلامي .
و في مقال له في صحيفة النيويورك صن سنة 2004 يأتي دانيال بايبس الباحث الأمريكي المعروف بتوجهاته الصهيونية بمجموعة من الأرقام ليرعب بها الغرب من الخطر الإسلامي المحدق بهم و يدفعهم إلى تبني إستراتيجية هجومية صدامية مع العالم الإسلامي ، و سنستعير هنا هذه الأرقام فقط لنبين تنامي وجود المسلمين هناك ، حيث يرى أن سكان أوروبا الأصليين يتضاءل عددهم يوماً بعد يوم ، ويشير إلى أنّ إحصاءات الإتحاد الأوروبي ترى أنّ النسبة المطلوبة للحفاظ على عدد سكان أوروبا الحالي يتطلب نسبة ولادة تبلغ 2.1 للمرأة الواحدة ، في حين أن النسبة الحالية هي 1.5 وهي آخذة في التدنّي ، كما يشير إلى دراسة ترى أنّ سكان أوروبا سيتدنى عددهم من 375 مليون نسمة الى 275 في عام 2075 إن لم تستمر الهجرة إلى البلدان الأوروبية ، ويحتاج الإتحاد الاوروبي إلى 1.6 مليون مهاجر سنوياً ليحافظ على التوازن بين المواطنين العاملين والمتقاعدين ، أما الآن فإنّه يحتاج إلى 13.5 مليون مهاجر لتسوية النقص الحاصل من قبل ... إنّ نسبة 5 في المئة من الإتحاد الأوروبي، أو 20 مليون نسمة يعتبرون أنفسهم مسلمين، وإن استمرت الأمور على ما هي عليه ستصل النسبة إلى 10 في المئة في عام 2020 ، وإن تركت العناصر غير الاسلامية أوروبا فستصبح غالبية السكان من المسلمين في عقود قليلة ... "إنتهى كلامه" ... ما أشار إليه بايبس من أرقام تحدثت عنه كثير من التقارير الرسمية و غير الرسمية و كذا العديد من الدراسات الجادة التّي يذهب كثير منها إلى أنّ المسلمين قد يشكلون نصف سكان أوروبا بعد خمسين سنة .
   لنُلخص كلّ ما سبق لنصل إلى غرضنا من هذا المقال ... إذن تنامي التواجد الإسلامي في الغرب يُصاحبه مشاكل بنيوية تعاني منها هذه المدنية بفعل المخلفات السلبية للحداثة ، تتعالى معه أصوات أكاديمية و تيارات فلسفية من الداخل تنادي بالرجوع إلى قيم الروح و إعادة بعث الإله الذّي قتله نيتشه في الروح الغربية ... و هنا نرى أنّ التاريخ سيشهد منعرجا جديدا ترجع فيه قيم الإسلام لتُشع على أوروبا من جديد ، لقد صارت المدنية الغربية –ولا نقول الحضارة- بحاجة إلى روح  و روح المدنية الجديدة لن تكون المسيحية و إنّما ستكون قيم الإسلام ، لقد ناضل الغرب قرونا ليتحرّر من خرفات الكنيسة لا لشيئ إلاّ لإدراكه أهمية العقل في بناء الحضارة و الإنسان و في معرفة الله و الوجود ، و لن يجد هذه العقلانية إلاّ في دين يُعلي شأن العقل كدين الإسلام ، فحاجتهم إلى قيم الروح و الإيمان تتماهي هنا مع إرادتهم في التمسك بالمنجزات الإيجابية للعقل و العلم ... لذا ستشرق شمس الإسلام قريبا على الغرب ليشهد العالم بزوغ فجر روح مدنية جديدة .