الاثنين، 16 أبريل 2012

التوجهات الكبرى للإستراتيجية الأمريكية بعد الحرب الباردة



التوجهات الكبرى للإستراتيجية الأمريكية بعد الحرب الباردة .
من إعداد: جلال خشيب .
تمهيـــــــــد:
 
لقد أصبح النظام الدولي اليوم على المستوى الجيوسياسي –في نظر صاموئيل هنثنغتون- مؤسسا على نظام هجين ومركب بشكل غريب فالأنماط التقليدية للتفاعلات الدولية –أي الأحادية و الثنائية والتعددية القطبية- لم تعد تجسد واقع السياسة الدولية، حيث أصبحت بنية النظام الدولي قائمة على أساس نظام أحادي-متعدد الأقطاب Système thni- multipolaire يتسم بوجود قوة عظمى منفردة هي الولايات المتحدة، تتفاعل مع مجموعة من القوى الرئيسية.
لو نظرنا إلى القوى الفاعلة في النظام الدولي الراهن، وبسبب غياب المعطى الإيديولوجي المضاد، وبسبب كون العديد من هذه القوى تدين بنفس الإيديولوجية التي تحملها الولايات المتحدة، لوجدنا أنها قوى متنافسة أكثر من كونها قوى متصارعة، صحيح أننا لا نستطيع نكران وجود خلافات فيما بينها، إلا أن هذه الخلافات ذات طبيعة تنافسية يصعب وصفها بأنها خلافات إيديولوجية أو مذهبية-عقائدية ذات طبيعة تصارعية، وبالتالي فإن الغالبة التي تتميز بها قواعد إدارة العلاقات بين هذه القوى هي سمة التنافس وليس الصراع.
يبدو من الصعوبة بما كان أن نتصور اندلاع حروب بين القوى الفاعلة والرئيسية على غرار حروب القرن 19م والحربين العالميتين الأولى والثانية، فقد أصبحت القوى الكبرى اليوم تبتعد عن الحدود التي تكون فيها رهينة القوة العسكرية حيث لا خيار إلا الخيار العسكري، وباتت تدرك حجم الدمار والخسائر الفادحة الناجمة عن لا عقلانية القرار السياسي بالاحتكام إلى القوة العسكرية لحل مشاكلها، لاسيما بعد منطق توازن الرعب الذي فرضته الحرب الباردة.
القوة النووية قلصت خيارات المواجهة العسكرية مباشرة بين القوى الكبرى، إلا أن الإقرار بذلك ينفي بأي حال من الأحوال احتمالات المواجهة بين هذه القوى بشكل مطلق، إذ تتعدد آليات المواجهة ومنطق المجابهة بين هذه القوى، ويصير منطق المجابهة لا رجعة فيه في اللحظة التي تصل فيها هذه القوى إلى قناعة تامة بعجز آليات التعاون والمشاركة في تسوية الخلافات التي تتضارب فيها مصالح هذه القوى بشكل متناقض، هذا ما عبر عنه هنثنغتون حينما قال أنه: من الممكن أن نهاية الحرب الباردة ستعوض بمجموعة واسعة ومتعددة من الحروب الباردة الصغيرة بين القوى الكبرى.
يرشح الكثير من الباحثين منطقة القوقاز المحصورة بين بحر قزوين بثرواته الاقتصادية والبحر الأسود بأهميته العسكرية، كأحد أبرز بؤر التنافس العالمي في القرن الواحد والعشرين، إن لم نقل المنطقة الأولى بعد الخليج العربي، حتى وصفت من قبل بعضهم بكونها خليج عربي ثاني في القرن الحادي والعشرين، والأرقام المؤكدة وحدها تكفي لإبراز أهمية هذه المنطقة ومكانتها القادمة في الإستراتيجية الدولية.
إن هذه المكانة ليست واضحة اليوم كما ينبغي، بحكم الاهتمام الدولي الذي لايزال مركزا على المنطقة المسماة “بالشرق الأوسط” والخليج العربي بقضاياها الشائكة والعالقة، وبحكم أن دول القوقاز وما جاورها، لم يبدأ الاستثمار الحقيقي فيها حتى الآن، ولم تتحول إلى قوة مالية ذات شأن، مع ذلك فإن مجموعة من الدول الفاعلة على المستوى الإقليمي والدولي تدرك كما يجب الأهمية المستقبلية لدول منطقة سواء لأسباب اقتصاديةأوجيواستراتيجية أو ثقافية أو أمنية… هذه العوامل مجتمعة أو منفردة ستدفع بهذه الدول لدخول تنافس حاد للفوز بهذه المنطقة.
فإذا كانت كل من تركيا وإيران من أهم هذه الدول المتنافسة على المنطقة على المستوى الإقليمي، تبرز على المستوى الدولي كل من روسيا الاتحادية والو.م.أ كقطبين متنافسين يسعيان بكل ما توفر لديهما من “مهارات جيواستراتيجيةوإمكانيات مادية إلى إخضاع واحدة من أهم وأكثر مناطق العالم ثراءا، بشكل يعيد سيناريو التنافس الأمريكي الروسي أثناء الحرب الباردة بكل ما يحمله هذا التنافس من أبعاد أمنية وجيوبوليتيكية، فكما يرى البروفيسور سانتورو أن الإنسانية في وقتنا الحاضر تدخل مرحلة انتقالية من العالم الثنائي القطبين إلى الصيغة العالمية من تعدد الأقطاب، والتي تبدو –حسبه- أنها تعكس المنطق الهرم للجيوبوليتيكا الثنائية القطبين –أي التيلوروكراتيا في مواجهة التالاسوكراتيا- فبالرغم من سقوط الاتحاد السوفياتي، إلا أن العالم كله لا يزال يحمل الطابع لثابت للحرب الباردة والتي يبقى منطقها الجيوبوليتيكي مسيطرا .
لا يمكن بأي حال من الأحوال تشكيل تصور وفهم متكامل لمنطق سلوك خارجي لدولة معينة تجاه قضية أو منطقة محددة، ما لم يتم التعرف على السياق الاستراتيجي العام الذي جاء في إطاره هذا السلوك لاسيما عندما يتعلق الأمر بسلوك خارجي لدولة كبرى، أين يكون أي تصرف خارجي لها مضبوطا بقواعد محددة مسبقا، ومتماشيا مع التطورات الكبرى لهذه الدولة تجاه العالم ومناطقه الحيوية، وهنا تتحول هذه السلوكات كتكتيكات مدروسة مكرسة لخدمة الإستراتيجية الكبرى لهذه الدولة الفاعلة.
.
التوجهات الكبرى للاستراتيجية الأمريكية بعد الحرب الباردة:
بعد الحرب العالمية الأولى اقتبست الو.م.أ تصورًا وضعه رئيسها الأسبق جيمس مونرو عام 1823م، والذي سمي بمبدأ مونرو أو مبدأ العزلة.
في ظاهره كان هذا المبدأ يوحي بأن الو.م.أ ستطبق العزلة، وستبتعد عن المشاكل العالمية، وتتجه إلى تركيز الاهتمام على تطوير الو.م.أ، وقد أدى هذا التصّور إلى نشأة الدولة العملاقة التي نادى بها فريديريك راتزل أو المجال الكبير عند كارل شميدت- بعد الاتجاه إلى بسط النفوذ في الأمريكيتين، محققة بذلك مبدأ ازدواجية القارات،* وفي هذه المرحلة أصيب رأس المال الأمريكي بالتخمة وانطلق يبحث عن دور عالمي له، وكان ذلك واضحا من خلال التغلغل الأمريكي في جنوب شرق آسيا وأستراليا، والبحث عن المعادن والمحاصيل في إفريقيا، وقد بات الدور العالمي الفعلي للو.م.أ واضحا عند بداية الحرب لعالمية الثانية، عندما شاركت فيها الو.م.أ إلى جانب دول الحلفاء ضد دول المحور بقيادة ألمانيا النازية، وقبل أن تضع الحرب العالمية الثانية أوزارها استطاعت الو.م.أ أن تفاوض الحلفاء على وضع إستراتيجية اقتصادية للعالم بقيادتها، وذلك من خلال اتفاقية بريتون وودز التي أدت إلى إنشاء المؤسسات الرئيسية التي يدور في فلكها الاقتصاد العالمي.
عندها وصلت الو.م.أ إلى مرحلة الانطلاق نحو العالمية نافست بذلك توصيات مونرو الانعزالية، لتقر مؤسساتها مبدءا جديدا أباح لها التدخل في الشؤون العالمية، وهو مبدأ ترومان عام 1947، لتفرض من خلاله –على جميع الدول- مخططاتها السياسية والاقتصادية والعسكرية معتبرة نفسها العالم الحرّ وحامية حمي الديمقراطية، لاسيما بعد قيامها بدور هائل في بناء اقتصاد أوروبا الغربية عموما وألمانيا واليابان بخاصة، بعد الحرب العالمية الثانية.
كما كانت إستراتيجية إنشاء الأحلاف العسكرية متوازنة مع التصور العالمي للاستراتيجية الاقتصادية الأمريكية، إذ بعدما أقره مجلس الشيوخ الأمريكي في 11 جوان 1948 قرارا يحبذ فيه اشتراك الو.م.أ في منظمات أمنية جماعية إقليمية، حتى بدأت المدركات الأمنية للو.م.أ تتبلور أكثر فأكثر من خلال إنشاء حلف الناتو وأحلافا إستراتيجية أخرى كالسانتو والسياتو، لمواجهة الكتلة الشرقية بقيادة الاتحاد السوفياتي، وهنا نجد أن الو.م.أ تطبق الإستراتيجية التي وضعها الجيوبوليتيكيان الأمريكيان ألفرد ماهان و نيكولاس سبيكمان، لاحتواء الاتحاد السوفياتي وتفكيكه تدريجيا، وبالفعل فقد تكللت هذه الإستراتيجية بالنجاح، إذ ساهمت إلى حد كبير في انهيار الكتلة السوفياتية عام 1990م، فاتحة الطريق أمام الو.م.أ لإنشاء دولة عالمية أحادية القطبية، لها أساطيل وقواعد عسكرية في جميع المحيطات بل ولها وجود في جميع البحار الداخلية الإستراتيجية، كالبحر الأبيض المتوسط، بحر قزوين، والبحر الأسود وصولا إلى الصين في أقصى الأرض
.
1-الوضع الجيبوليتيكي الجديد للولايات المتحدة و الرؤى المتعددة لعالم ما بعد الحرب الباردة :
يشير سقوط حلف وارسو والاتحاد السوفياتي بشكل حاسم إلى انتصار التوجهات الإستراتيجية الأطلسية في الحياة على مدار القرن العشرين بطوله، فالغرب-بزعامة الو.م.أ يحقق انتصاره في حربه الباردة مع الشرق، والقوة البحرية تحتفل بانتصارها على الهارتلاند فمن الناحية الجيوبوليتيكية، كانت مواجهة المعسكر السوفياتي مع الناتو الصيغة الأولى الصافية والنقية من صيغ المواجهة بين الأرض والبحر، بين بهيموت ولوياثان في التاريخ، وإلى جانب ذلك فإن الميزان الجيوبوليتيكي للقوى لم يكن يعكس الثوابت الإيديولوجية فقط بل والجيوبوليتيكية أيضا.
إن انهيار الاتحاد السوفياتي فتح المجال أمام التالاسوكراتيا اللبرالية للتحرك، مسقطة الحواجر، متخطية العقبات في طريقها، وهي تسير نحو إقامة سلطة شبه مطلقة على المعمورة، وبما أن الشركات متعددة الجنسيات والقوة التكنولوجية باتت واقعا وظاهرة ذات سمة أمريكية واضحة، فقد أصبح حديث المراقبين ينصب على أمركة العالم، أي أن العالم أصبح يخضع لنظام قطب واحد بزعامة الو.م.أ، وهذا ما أكده الرئيس بوش الأب سنة 1991 حينما قال: إن الو.م.أ وحدها من بين دول العالم تملك من المستوى الأخلاقي والإمكانات –المادية- ما يكفي لإيجاد نظام عالمي جديد.
فبعدما اعتاد العالم، ومحيط العلاقات الدولية على التعامل مع معادلة توازن دولية قائمة على ثنائية قطبية أو القوتين، فبين ليلة وضحاها انفرط عقد هذه المعادلة، وانهار جدار برلين الذي أحدث زلزالا مدويا نجم عنه انهيار نظم سياسية بل وتشضي أكبر دولة في العالم، حتى إنه لم يتردد البعض في الحديث عن ولادة عالم متعدد الأقطاب، وعودة دور الأمم المتحدة فاعلا دوليا بعد تهميشها في حفظ الأمن والسلم الدوليين… إلا أنه سرعان ما تبددت هذه التمنيات”، وبدأت تكتشف ملامح عالم جديد، مرتكزا على قطب أحادي الجانب، اعتبر نفسه، على حد تعبير هنري كيسنجر: “المكون الذي لا غنى عنه للاستقرار الدولي ومصدر المؤسسات الديمقراطية في كل أنحاء العالم، والضامن لها، وحكما على نزاهة الانتخابات الأجنبية يفرض عقوبات اقتصادية، أو ضغوطا أخرى إذا لم تستوفي معاييرها، وقام هذا القطب بنشر قواته العسكرية على مساحة كبيرة من العالم، وشكل الأذرع لأكبر عمليات تدخل عسكري باسم حفظ السلام وردع العدوان إذ إن الانتصار في الحرب الباردة يغري بالزهو، وبالاعتقاد بالهيمنة الأمريكية على العالم.
وقد عبر وزير الخارجية الفرنسي هوبير فيدرين عن ذلك عام 1999 بقوله أن الو.م.أ قد تخطت مرحلة القوة العظمى في القرن العشرين إلى أكبر من ذلك فالهيمنة الأمريكية امتدت إلى كافة النواحي الاقتصادية والمالية والعسكرية العالية لتطال طرق الحياة واللغة والنتاج الفكري والثقافي للآخرين، لتعيد تشكيل الأفكار وتسحر حتى أعدائها ليصف الو.م.أ بمصطلح القوة الخارقة أوالمفرطة ويؤكد جوزيف ناي أن النظام الدولي اليوم لم يعد يقوم على توازن القوى كما كان عليه الأمر سابقا وإنما أصبح نظام القطب الواحد والهيمنة الأمريكية.
أما تشارلز كروثامر فقد رأى أن : انهيار الاتحاد السوفياتي ولد شيء جديد تماما عالم أحادي القطب تسوده قوة عظمى غير مهددة من قبل أي منافس، وذات نفوذ حاسم في أي بقعة من الأرض، إنه انعطاف حاسم في التاريخ، لم يشهد له مثيل منذ انهيار روما، إنه تحول جديد، غريب تماما إلى حد أننا لم نملك أي فكرة عن كيفية التعامل معه.
وبالفعل فقد كان انتصار الو.م.أ والغرب في الحرب الباردة يعني من الناحية البنيوية انتهاء ثنائية القطبين وبداية العالم أحادي القطب، ومع هذا الانتصار ظهرت في الو.م.أ رؤيتين جيوبوليتيكيتين للعالم، نتيجة لتغير الوضع الجيوبوليتيكي إحداهما: يمكن أن توصف بـ:التشاؤمية، بالنسبة للأطلسي” وهي ترث الخط التقليدي للأطلسية والمتعلق بالمواجهة مع الـ: Heartland، التي تنبئ بتشكيل أحلاف أوراسية جديدة، وهذه الصيغة يمكن أن تسمى بـ: الأطلسية الجديدة، وتؤدي في جوهرها إلى مواصلة النظر إلى اللوحة الجيوبوليتيكية للعالم في المنظور التقريبي للثنائية المؤسسة، وهو ما يتشابه تقريبا مع بروز مناطق جيوبوليتيكية إضافية “غير الأوراسيا” يمكنها في المستقبل أيضا أن تصبح بؤرا للمواجهة مع الغرب، والمثل الأكثر وضوحا لمثل هذه النظرة الأطلسية الجديدة هو صاموئيل هنثنغتوت The West and the Rest.
أما الرؤية الثانية فهي متفائلة بالنسبة للأطلسيين”، ترى في الوضع المتكون بنتيجة انتصار الغرب في الحرب الباردة وضعا نهائيا ولا رجعة فيه، على هذا تقوم نظرية العولمة، نهاية التاريخ والعالم الواحد The One Werld، المؤكد على أنه سيصار إلى التخلص من كافة أشكال التعددية الجيوبوليتيكية الثقافية، القومية، الأيديولوجية….” بشكل نهائي، وتحل حقبة الحضارة الإنسانية المشتركة الواحدة القائمة على مبادئ الديمقراطية اللبرالية، وسينتهي التاريخ بانتهاء المواجهة الجيوبوليتيكية التي منحت التاريخ حافزه الرئيسي منذ البداية، وهذا المشروع الجيوبوليتيكي يرتبط باسم عالم الجيوبوليتيكا الأمريكي فرنسيس فوكوياما بالإضافة إلى كل من الفرنسي جاك أتالي ، والبروفيسور الايطالي سانتورو.
تلك هي المشاريع الجيوبوليتيكية للمنتصرين في الحرب الباردة، الذين يمتلكون المبادرة الإستراتيجية ويلتقون جميعا عند أمر واحد : على الكوكب الأرضي لابد وأن تنتصر –عاجلا أم آجلا- العالمية الغربية النمط، أي أن النظام الأطلسي، التالاسوكراتي، للقيم يجب أن يصبح المسيطر في كل مكان، أما العالم الثنائي القطبين العائد لأيام الحرب الباردة فيعدّ أمرا تم التخلص منه إلى الأبد.
وبالرغم من وجود مثل هذا الاتفاق، إلا أن تعدد المشاريع الجيوبوليتيكية يعكس بشكل واضح أنه ومنذ نهاية الحرب الباردة، عاشت الو.م.أ على هاجس البحث عن مرجعيات فكرية جديدة لتفكيرها الاستراتيجي وذلك نظرا إلى صعوبة صياغة دور استراتيجي أمريكي جديد في عالم يعيش متغيرات جذرية يصعب التحكم فيها، هذا ما جعل الإدارات الأمريكية المتعاقبة بعد الحرب الباردة تفتقد نموذجا استراتيجيا تفصيليا لإدارة الأزمات الدولية وحماية المصالح الحيوية الأمريكية عبر العالم، أي أن الو.م.أ لم تعد تتوفر –كما الكثير من المراقبين- على إستراتيجية شاملة واضحة المعالم في تعاملها مع الأزمات الدولية كما كان الأمر أثناء الحرب الباردة، فالإستراتيجية الأمريكية أصبحت مجرد استجابات آنية ظرفية حسب طبيعة الأزمات الدولية ومدى تأثيرها المباشر في المصالح الأمريكية، بل أنه داخل أزمة واحدة نجد عدة استراتيجيات.
بل وذهب البعض إلى القول أن الو.م.أ وبعد الحرب الباردة مباشرة كانت فاقدة لرؤيتها ولموقعها، نتيجة لعدم إدراك الفرص والمخاطر الحقيقية والمتوقعة التي أفرزها انهيار الاتحاد السوفياتي، وفي هذا الصدد يقول أحد المحافظين الجدد بأن: مشكلة بوش الأب واضحة، في عدم امتلاكه لفهم واضح للدور الذي ينبغي للو.م.أ أن تلعبه في تشكيل العالم في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، فبوش الأب وكمؤيد وبشدة للمنظور الواقعي في السياسة الخارجية اعتقد دوما بأنالمحافظة على الستاتيكوهو الهدف الأساس في السياسة الخارجية الأمريكية”.
بمعنى أخر أن كل ما على أمريكا التي وصلت إلى القمة هو أن تكبح الحراك الجيوبوليتيكي للقوى الطامحة، لأنها بذلك تحافظ على سلطتها وأحاديتها، كما يعني ذلك أيضا، المحافظة على المصالح الخاصة لأمريكا في حال وجودها، كما يعني أيضا، منع تحرك الأطراف المنافسة الأخرى لأن كل تحرك أو نمو في حراكها السياسي الخارجي في أي منطقة من العالم، سيكون على حساب نفوذ الو.م.أ.
لكن حتى وإن سلمنا بعدم توفر الو.م.أ على إستراتيجية شاملة وواضحة بعد الحرب الباردة، فما كان واضحا ومتفقا عليه داخل الدوائر الأكاديمية والرسمية الأمريكية، هو أن الو.م.أ باتت تعتبر في اللحظة الراهنة، الأقوى اقتصاديا وعسكريا على الإطلاق، وبناءا على ذلك لابد عليها من العمل على عدم تفويت فرصة قيادة العالم، ومواصلة فرض هيمنتها وزعامتها الحتمية عليه، تحقيقا لأهدافها وحماية لمصالحها الحيوية، وفي هذا الصدد يقول وارن كريستوفر وزير الخارجية الأمريكي الأسبق، بعد مرور سنتين على حرب الخليج الثانية: اعلموا أننا سنواصل فرض هيمنتنا على العالم، فالو.م.أ على استعداد للتدخل بشكل حاسم لحماية مصالحها وفي أي مكان وفي أي وقت، حيثما كانت الاستجابة ملائمة وممكنة فسوف تعمل بالتعاون مع الذين يؤيدوننا ويرغبون في السير وراءنا، وإن اقتضت الضرورة تصرفنا بشكل أحادي.
فما كان واضحا بالنسبة للإدارة الأمريكية هو ضرورة تغليب الشأن الأمريكي على الشأن العالمي إذ منذ إدارة بوش الأب وصولا إلى بوش الابن، اعتبر أن كل ما يخدم السلم والأمن الأمريكي يخدم السلم والأمن العالمي، وكل ما يحقق المصالح الأمريكية يحقق المصالح الدولية، بمعنى آخر، كل ما يصلح للو.م.أ يصلح للعالم، إلى حد جعل الكاتب الأمريكي ذو الأصول الهندية فريد زكريا يشدد أنه من دون الزعامة والقيادة الأمريكية سوف لن يكون هناك عالم تسوده الفوضى وعدم الاستقرار، حتى أوروبا، إذا لم تتطابق سياساتها وتتماثل مواقفها مع السياسات والمواقف الأمريكية، فإنها بذلك تهدد الأمن والسلم الدوليين، ويؤيده في ذلك زيغنيو بريجنسكي حينما يقول أن الظهور المباغث للقوة العالمية الأولى والوحيدة قدأوجد وضعا يمكن للنهاية المباغتة لسيادة هذه القوة أن تتسبب في حالة جماعية من عدم الاستقرار الدولي، بل إنها في الواقع يمكن أن تطلق فوضى عالمية، تم يستشهد بكلام لهنثنغتون حينما أكد بوضوح أن: عالما بدون سيادة الو.م.أ سيكون عالما أكثر عنفا وفوضى وأقل ديمقراطية وأدنى في النمو الاقتصادي من العالم الذي يستمر تأثير الو.م.أ فيه أقوى من تأثير أية دولة أخرى على صياغة الشؤون العالمية، إن السيادة الدولية المستدامة للو.م.أ ضرورية لرفاهية وأمن الأمريكيين ولمستقبل الحرية والديمقراطية والاقتصاد المنفتح والنظام الدولي في العالم.
إلا أن الرؤية القائمة على بقاء الهيمنة الأمريكية والحفاظ على الوضع الجيوبوليتيكي المتشكل بعد الحرب الباردة لم تخلو من عراقيل تقف في مواجهتها، أبرز هذه العراقيل هي المخاطر والتهديدات الأمنية الجديدة التي ترافقت مع وضع أمريكا الجديد في العالم، والتي خلقت إرباكا على مستوى الأهداف المرسومة، وهو الأمر الذي يؤكده ريتشارد هيلمس مدير CIA ما بين 1965-1973- حين قال: في العمق الشيء الجيد في الحرب الباردة أنه كان لنا أعداء معروفين، في الحاضر الواقع أصبح صعب الإدراك وأهدافنا جد مجردة، هذا ما يقر به مدير CIA الأسبق جيمس وولسي عندما قال: نعم إننا ذبحنا الديناصور الكبير، ولكننا نعيش اليوم في غاية تمتلئ بتشكيلة محيرة من الأفاعي السامة.
ذلك لأن الأمن القومي الأمريكي ينطوي على امتدادات عالمية، بسبب الانتشار الواسع للمصالح الأمريكية في العالم، ما جعل عملية تحديد المخاطر التي تمس الأمن القومي والمصالح الأمريكية أمرا معقدا، ومع ذلك، -وبشكل تبسيطي- يمكن ترتيب المخاطر والتهديدات التي يتعرض لها الأمن القومي الأمريكي إلى ثلاثة مستويات مرتبة ترتيبا تنازليا من أكثرها خطورة إلى أقلها خطرا.
المستوى الأول: ويشمل التهديدات التي تعترض وجود الو.م.أ كالقوى المرشحة كبدائل لها: كالصين، وروسيا الاتحادية.
المستوى الثاني: ويشمل المخاطر التي تهدد المصالح الأمريكية وميدانها العملياتي هو آسيا، الصين، روسيا الاتحادية، منطقة آسيا الوسطى والقوقاز، شبه الجزيرة الكورية، والشرق الأوسط.
المستوى الثالث: ويشمل مناطق لا تهدد الوجود والمصالح الأمريكية تهديدا مباشرا إلا أن وجودها يعتبر مقلقا من الناحية الأمنية: كالبلقان، الصومال….
كما أن ضمان عدم انسحاب أمريكا من العالم، وإبقاء زعامتها عليه، بحاجة إلى ذريعة وظيفية أو محفز استراتيجي كافي لإقناع العالم بذلك، وهذا ما عبر عنه هنثنغتون حينما تساءل: إن السؤال الأكثر عمقا الذي يهم الدور الأمريكي في عالم ما بعد الحرب الباردة [يتلخص فيما يلي] من دون الحرب الباردة ما هي الغاية من أن تكون أمريكيا.
فبنهاية الحرب الباردة فقدت القيادة السياسية الأمريكية المحفز الاستراتيجي الذي كان يمثله الاتحاد السوفياتي وتهديده المحتمل، لذلك قال الدبلوماسي السوفياتي السابق غوركي أرباتوف للأمريكيين لحظة انتهاء الحرب الباردة: نحن على وشك أن نعمل بكم أمرا فظيعا، نحن سنقوم بحرمانكم من عدو، وأهمية هذا المحفز في دولة ديمقراطية أنه أمر حيوي لإبقاء الإرادة الداخلية متماسكة ومتمسكة بالحفاظ على سياسة التسلح والمحافظة على مواقع القوة، والقبول بسياسة ملء الفراغ في المناطق الحيوية، وما يتصل بذلك من سياسات الاحتواء، والمواجهة والحرب بالوكالة وغيرها… وقد عبر عن هذه الأزمة أكثر من مسؤول، مثل الجنرال كولن باول عندما قال: فكروا بجدية عن الأمر، فإنه لم يبق لدي وحوشا، لم يبق لدي مجرمين ورئيس لجنة مجلس الشيوخ للعلاقات الخارجية السابق إذ قال: منذ أن أنهى سقوط الاتحاد السوفياتي الحرب الباردة والو.م.أ تبحث عن سياسة خارجية شمولية تستبدل بها مواجهة الشيوعية لتلك الفترة، وقد نكون وجدناها في مواجهة الإرهاب، ولكن لم نجد بعد خليفة لسياسة الاحتواء التي طبقت على الاتحاد السوفياتي في مرحلة الحرب الباردة هذه السياسة وصفها أحد الكتاب بقوله:”إعادة صنع الحرب الباردة
.
2- بناء قوة عالمية مهيمنة:
في الواقع، ليس هناك هدف مركزي وضعته السياسة الخارجية الأمريكية منذ أن تربعت على عرش قيادة العالم الرأسمالي الغربي كأكبر قوة اقتصادية ومالية وعسكرية، غير توطيد موقعها بوصفها القوة العظمى الوحيدة في هذا العالم، هذا الهدف بقدر ما بقي شاخصا في المدركات الأمنية والعسكرية لمخطط السياسة الأمريكية في فترة ما بعد الحرب الباردة، فإن عملية تشييد هندسة معمارية لنظام دولي جديد يترجم هذا الهدف في محيط العلاقات الدولية، وتوازنات القوى دوليا أصبح من المسلمات الأساسية لصناع القرار السياسي والاستراتيجي الأمريكي.
إن لدينا من القوة ما يمكننا أن نعيد بناء العالم مرة أخرى فلم يحدث، منذ عهد نوح حتى الأن، موقف متشابه لما هو عليه الحال في الحاضر، إن ميلاد عالم جديد أصبح الأن بأيدينا.
لقد كتب توماس بين ذلك عام 1775، ولدينا اليوم –على حد تعبير هارلان كليفلاند أحد المسؤولين والأكاديميين الأمريكان- كل الحق بأن نشعر بأننا نشهد مرة أخرى ميلادا لعالم جديد.
إذ لقد كان لتركز مصادر القوة بأشكالها المتعددة في يد الو.م.أ دافعا قويا ومحفزا لممارسة الدور القيادي في عالم ما بعد الحرب الباردة، حيث اعتبرت منذ ذلك الوقت الأقوى اقتصاديا وعسكريا حيث بلغ حصتها من النفقات العسكرية نصف ما تنفقه كافة الدول على هذه الأغراض، وثلاثة أرباع ما ينفق في العالم على البحوث والتجارب في المجال العسكري والأكثر نفوذا سياسيا في العالم، فلقد كرست الو.م.أ من أجل ذلك موارد مالية ضخمة “300 مليار دولار سنويا للإنفاق الدفاعي لتأمين أن تكون القوة العسكرية الأولى في العالم بلا منازع، كما عملت على تطوير أنظمتها الصاروخية في البر والبحر والجو لردع أي قوة تحال مهاجمتها أو مواجهة حلفائها، كما جهزت لخوض “حروب ذكية” باستخدام شتى الطائرات وقاذفات الشبح ولكاملات والأقمار الصناعية وأجهزة الإنذار.
حسب تقديرات ذلك الوقت -1990- كانت القوة العسكرية الأمريكية تتألف من حوالي 227900 عسكري وتشكل 7.8% من مجموع القوات العسكرية في العالم، وقدر الإنفاق العسكري آنذاك بـ 300 مليار دولار سنويا أي ما يقارب ثلث إجمالي الإنفاق العسكري في العالم تقريبا.
إذ لقد سيطر المنظور الواقعي على توجهات السياسة الخارجية الأمريكية، والذي يرى بضرورة الاستعداد العسكري الدائم، نظرا للاعتقاد السائد بأن القوة العسكرية ستبقى الحكم الرئيسي في حل المنازعات بين الأمم قبل أن تهدد المصالح الأمريكية، وفي هذا يبين تقرير الأمن القومي الأمريكي المقدم للكونغرس في أوت 1991 أن إحدى المهام الرئيسية للو.م.أ هي: المحافظة على التوازن العسكري وحل النزاعات الإقليمية قبل أن تتحول إلى نزاع مسلح، أما عن كيف سيكون ذلك فيقول الجنرال كولن باول رئيس هيئة الأركان المشتركة آنذاك: أن القوات المسلحة الأمريكية لا تعتزم الانسحاب من العالم مشددا أنه سيقاوم أي محاولة لتخفيض ميزانية القوات المسلحة الأمريكية: لا نستطيع أن نستفيق كل يوم اثنين من أفكار جديدة حول كيفية التلاعب مع وزارة الدفاع.
فلقد تطلب تثبيت الهيمنة الأمريكية على العالم ضرورة بناء قوة عسكرية عالمي وحيدة، لا يضاهيها منافس، ولقد تبلورت هذه الإستراتيجية في تقرير وجهه الرئيس الأمريكي إلى الكونغرس حول الإستراتيجية القومية لأمن الولايات المتحدة جاء فيه أن للو.م.أ قوة عسكرية تتمتع بوضع لا يوازيه وضع آخر، كما أنها تمتلك من القوة والنفوذ في العالم ما لم يسبق لها مثيل أو قرين، وأن هذا الوضع سيتم الحفاظ عليه حتى تظل أمريكا متفوقة عسكريا على أية دولة أخرى، وما يؤكده التقرير، تثبته الحقائق، فالأسطول الأمريكي أقوى من مجموع أساطيل دول الاتحاد الأوروبي يضاف إليها الروسي والصيني، وستبلغ الميزانية العسكرية الأمريكية للسنة المالية القادمة 396 ألف مليون دولار وهي أكثر 6 مرات من ميزانية روسيا و04 مرات من ميزانيات دول الاتحاد الأوروبي.
أما عن القوة النووية الأمريكية فلدى الو.م.أ ترسانات نووية ضخمة، جعلتها تقيم شكلا من الاستقرار الاستراتيجي مع القوى النووية الأخرى وبالأخص روسيا، وبالرغم من الاتفاق الاستراتيجي الأمريكي-الروسي سنة 2002 الذي حدد سقفا من2200 رأس نووي تنشر حتى عام 2012 ،فإن الو.م.أ تتجه إلى التخلص من قدر التكافئ مع روسيا وحددت أنها ستحتفظ بما مجموعه 4600 رأس نووي استراتيجي مخزونة ومعدة حتى عام 2012، تتيح هذه الترسانة الاحتفاظ بتفوق واضح على روسيا والقوى النووية الأخرى المتوسطة، وحسب التوقعات ستمتلك الو.م.أ في عام 2015 قوة نار نووية تعادل خمس مرات ما هو متوفر لدى القوى النووية الأخرى مجتمعة.
وقد أدرك قادة الو.م.أ أن هذه القوة العسكرية لابد وأن تكون مرتكزة على القوة الاقتصادية التي تعد بمثابة الشريان الحيوي للقوة العسكرية حيث يؤكد بول كينيدي في كتابه صعود وسقوط القوى العظمى على حقيقة تاريخية أدركها خبراء البانتاغون وهي أن القوة تستمد من الثروة حيث يعي المخطط الأمريكي أن هناك ثلاثة مصادر لممارسة القوة وهي: القيادة، الثروة والتنظيم، فالو.م.أ تستحوذ حاليا على ما يزيد عن 40% من ثراء العالم، وهذا –وباختصار- يكون للاقتصاد الدور الهام في تصعيد القوة الأمريكية لحكم العالم.
كما عملت على بناء قوة أخرى من نوع خاص وغير اعتيادي، اعتبرت مصدرا من مصادر التأثير القوية التي استخدمتها الو.م.أ في تكريس هيمنتها وبتكاليف أقل، وهي ما اصطلح على تسميته بالقوة الناعمة· فمن وجهة نظر الألماني جوزيف جوفي فإن: قوة الو.م.أ الناعمة تفوق مقدرتها الاقتصادية والعسكرية، فالثقافة الأمريكية سواء أكانت ضعيفة أم رفيعة المستوى، تشع خارجيا بشكل لم يحصل له مثيل منذ الامبراطورية الرومانية، إن تأثير ثقافة كل من الرومان وروسيا السوفياتية توقفت عند حدودهما العسكرية، بينما استطاعت القوة الناعمة الأمريكية أن تسيطر على إمبراطورية لا تغيب عنها الشمس أبدا.
إذن ومما سبق يمكن القول أن سعي “الو.م.أ” للإحتفاظ بمكانة متقدمة خاصة للقوة العسكرية في عالم ما بعد الحرب الباردة قد استند إلى ثلاث متغيرات أثرت في تحديد بناء القوة على قمة النظام الدولي:
أولا: ازدياد أهمية المكونين الاقتصادي والسوقي، نتيجة الثورة المعرفية وبخاصة في مجال الاتصال والعولمة المتزايدة.
ثانيا: أهمية القوة العسكرية.
ثالثا: تغير طبيعة التهديدات الأمنية.
وخلاصة القول أن الو.م.أ حسبما تشير أغلب الدراسات، سعت من أجل الاحتفاظ بموقع القيادة لأكبر قوة عسكرية والقوة الوحيدة والمتفردة، إلى تطوير وإعادة صياغة إستراتيجيتها الأمنية والعسكرية، لكي تستطيع أن تؤدي دور المحور العالمي في السياسة الدولية، وتجاه مناطق التوتر والاستقرار في العالم، وفي حل الأزمات والتوترات وفق ما تراه منسجما مع مكانتها العالمية.
3-منع ظهور منافسين جدد و السيطرة على منابع الطاقة :
هناك وجهة نظر تم تداولها بشكل واسع، ترى بأن الأحادية والقوة الأمريكية ما هي إلا نتيجة سقوط الاتحاد السوفياتي السابق، وعليه فإن مرحلة الأحادية القطبية ستكون قصيرة ومؤقتة، إذ ترى مجلة الإيكونوميست أن: عالم القوة الخارقة الواحدة لن يدوم، وأن الصين خلال العقدين القادمين ستكون صاحبة اقتصاد قومي ومتطور وتتمتع بنظام سياسي وسلطة مستقرة، وبالتالي ستسعى للاهتمام بمصالحها الخاصة، وستحاول روسيا السابقة عاجلا أم آجلا لملمة نفسها لتعود إلى التأثير في الساحة الدولية من جديد.
كما ستخرج البلاد الإسلامية جيوبوليتيكيا إلى عداد البلدان المركزية، وتعلن منطقة المحيط الهادي عن قدرتها التنافسية مع أوروبا وأمريكا، وكل هذا ممكن، لكن مثل هذه التعددية الجديدة للأقطاب –باستثناء روسيا- ستجري تحت راية النظام الأطلسي للقيم أي أنها لن تمثل إلا التنوعات الإقليمية للنظام التالاسوكراتي وليس شكل من أشكال البديل الجيوبوليتيكي الحق، وهنا يكمن التحدي الكبير للتالاسوكراتيا الأمريكية، في الحفاظ على الوضع القائم الستاتيكو وتقييد القوى الناشئة بمجموعة من الشروط الجيوبوليتيكية التي تمنع –أو تؤجل لوقت طويل- ظهور منافسين جدد يزاحمون الو.م.أ في مكانتها أو يقاسمونها الزعامة العالمية، فلن تكون الو.م.أ إمكانية السيطرة العالمية إلا في حالة انعدام وجود أي مدى كبير آخر فوق الكرة الأرضية، من هذا ينطلق الاستنتاج بأن تضع الجيوبوليتيكا الأمريكية هدفها تدمير المعسكر الجيوبوليتيكي القوي المحتمل وإقامة العراقيل للحيلولة دون إقامته.
أما عن المنظور الواقعي ورؤيته لهذه المسألة، فيمكن التمييز بين رؤيتين إحداهما معتدلة و الأخرى يمكن وصفها بالمتشددة فالرؤية المعتدلة لا تؤمن بوجود تهديد للأمن القومي ما لم يكن محتملا فعلا، وأما الرؤية المتشددة فتفرض دوام التهديد للأمن القومي في الساحة الدولية، سواء أكان محتملا أم غير محتمل، فبالنسبة إلى هذه الرؤية فإن مجرد وجود قوة أخرى يشكل تهديدا بحد ذاته، والذي يظهر في سلوك الو.م.أ بعد الحرب الباردة أنها تتبنى الرؤية الواقعية المتشددة، والتي تستمدها من النمط البسماركي “the Real Politics“ والذي يتضح مما قاله بسمارك يوما بشأن بولندا: إن عودة مملكة بولندا في أية هيئة أو صورة بمثابة خلق حليف لأي عدو يختار أن يعتدي علينا… “وبالتالي فإن علينا- سحق هؤلاء البولنديين سحقا يفقدون معه كل أمل، ويستسلمون تماما للموت… إنني أشفق كثيرا على حالهم، ولكن إذا أردنا أن نبقى، فلا خيار لنا إلا في محوهم من الوجودبعد هذا الكلام، بإمكاننا فهم السياسة الأمريكية الدولية إزاء الدول التي يمكن أن تعد قوية أو من المحتمل أن تصبح كذلك.
لقد تبلورت هذه الإستراتيجية بشكل جدي ورسمي في بداية سنة 1992 ففي تقرير للبانتاغون أعدته لجنة رأسها نائب وزير الدفاع المكلف بالشؤون الخارجية، بول وولفروتر، تحت مسمى دليل التخطيط الدفاعي رأى فيه بأن على السياسة الخارجية الأمريكية أن تحدد لنفسها هدفا يسعى لإقناع خصومها ومنافسيها المحتملين بأن لا ضائل من وراء طموحهم إلى لعب دور هام، ولا حتى رغبتهم في لعب مجرد دور إقليمي، مما يعني تثبيط همتهم في تحدي الهيمنة الأمريكية”. وقد جاء في التقرير: إن هدفنا الأول هو تفادي ظهور منافس جديد، إن هذه رؤية عامة تقع تحتها الإستراتيجية الدفاعية الإقليمية، وتتضمن سعينا الدائم لمن أي قوة معادية من السيطرة على أي منطقة يمكن لثرواتها، عندما تصبح تحت السيطرة، أن تكون كافية لإطلاق قوة عظمى، هذه المناطق تتضمن أوروبا الغربية شرق آسيا، الأراضي السوفياتية السابقة وجنوب غرب آسيا وبناءا عليه ينبغي أن نملك آليات تردع مالكي إمكانيات التحدي من الطموح نحو التوسع في الدور الإقليمي أو العالمي”. لقد أحدث هذا التقرير السري ضجة كبرى في الدوائر الإستراتيجية العالمية باعتباره إعلانا واضحا عن تفكير جديد حول توجهات السياسة الخارجية الأمريكية والإستراتيجية العسكرية التي يجب أن ترتبط بها.
إذ يبدو من خلال هذا التقرير، التوجه الاستراتيجي القائم على عدم تواني الو.م.أ في استخدام القوة لردع القوى المنافسة المهددة لمصالحها الحيوية، إذا تعرضت هذه المصالح إلى الخطر، أي أن السمة المميزة لمنهج التفكير الاستراتيجي الأمريكي تجمع بين التهديد باستخدام القوة العسكرية أو استخدامها فعلا، إذا ما تحول التهديد إلى أسلوب عمل، أو طريقة في التعامل لإنزال العقاب في حال المساس بالمصالح الحيوية، أو عند تعرضها لتهديدات جدية.
في هذا الصدد، فقد صرح السيد ميشيل جوبير وزير الخارجية الفرنسي الأسبق بأن أمريكا تعتمد دائما المخطط نفسه، وهو معرفة كيف ستفرض الأوضاع التي تتمناها، وكيف ستسوي الاتجاهات المضادة، وكيف ستستفيد من الاتجاهات المضادة، مطمئنة إلى ديمومة حضورها ومنافعها.
إن الهاجس الذي يحرك التقرير السابق، هو سعي الو.م.أ نحو تكريس الهيمنة عبر الحفاظ على التفوق العسكري بالأخص، لمواجهة التحديات الجديدة وعلى رأسها التحديات التي تفرضها القوى المنافسة الناشئة، هذا الهاجس دفع بالإدارة الأمريكية إلى التركيز على مجموعة من المفاهيم العسكرية الإستراتيجية نذكر منها:
* الانتشار المتقدم the forword Deployement: أي انتشار القوات العسكرية في أقاليم أساسية حيوية للمصالح الأمريكية، يقول جورج بوش الأب في كتابه إستراتيجية الأمن القومي للولايات المتحدة مايلي: إن وجودنا الطليعي يمكن أن يردع العدوان يحفظ الموازين الإقليمية ويحد من السباق نحو التسلح ويمنع فراغات القوة التي تستدعي الصراع وقد حدد كولين باول شكل هذا الانتشار سنة 1995 محددا رقعته من سواحل الو.م.أ إلى الخليج العربي مرورا بأوروبا والشرق الأوسط والبحر المتوسط وجنوبي غرب آسيا أي أوسع من الانتشار الأمريكي بعد الحرب العالمية الثانية ومع انطلاق الحرب الباردة .
* الالتزام المستمر Continued Engagement: ويرتبط بالمفهوم الأول، ومعناه أن على الو.م.أ أن تبرز حضورها القوي المستمر واستجابتها السريعة لإدارة الأزمات بالتعاون مع حلفائها وكذا بكفاءتها وقدرتها على إعادة تشكيل القوات العسكرية.
* مفهوم النزاعات ذات المفعول المحدود** Iow-Intensity conflict: حيث ركز الإستراتيجيون الأمريكيون على سياسة قائمة على فكرة أن فترة ما بعد الحرب الباردة ستعرف انتشارا كبيرا للنزاعات ذات الحجم المحدود والتي لا ترقى إلى مستوى الحروب بين الدول كالصراعات الإثنية والدينية وحروب العصابات… إلا أن لها مضاعفات إقليمية حاسمة تهدد مصالحها الحيوية عبر العالم، هذا ما يفرض عليها إعادة ترتيب وحداتها العسكرية لتكييفها مع طبيعة هذه النزاعات، وتولي الإدارة الأمريكية أهمية بالغة ومتميزة لهذا النوع من النزاعات، التي يكون الخط الفاصل فيها بين السلم والحرب ضبابيا وغامضا.
إن تحقيق أهداف من قبيل منع قوى أخرى من منافسة أمريكا مستقبلا على السيطرة العالمية، يستدعي الإمساك بنقطة مفصلية هي حقول النفط ومصادر الطاقة الأساسية في العالم، وممرات ناقلاته البحرية وأنابيبه، وبذلك تحافظ أمريكا على حصة سخية من النفط لصالح اقتصادها، وتحافظ على مفاتيح ابتزاز اقتصاديات الدول المتنافسة ساعة تشاء عبر الإمساك بحنفيات الذهب الأسود والتحكم بأسعاره.
لقد أثبتت أحداث مطلع عقد التسعينيات من القرن العشرين، والسنوات الأولى من القرن الحادي والعشرين أن من يسيطر على النفط والغاز يسيطر على العالم، إذ أكد وزير الدفاع الفرنسي السابق أندريه جيرو أستاذ مادة جيوبوليتيك الطاقة، في الكتاب الذي أصدره تحت عنوان جيوبوليتيك النفط والغازـ أن الغاز والنفط هما المركز الحقيقي للعالم ومن يسيطر عليهما يسيطر على العالم، ويضيف جيرو أن: العلاقات الإنسانية، والأكثر من ذلك العلاقات الدولية، في المعنى الأصلي للمصطلح تدار من خلال علاقات القوة،وإن التجارة الدولية هي صراع بأسلحة ذات طبيعة تكتيكية ومالية واقتصادية، وبالأسلحة التي تمنحها أيضا الجغرافية.
فلقد أصبحت الموارد النفطية موضوعا للحروب المعاصرة، ومن المعلوم أن النفط من الموارد الناضبة وسيختفي كمصدر للطاقة بعد سنوات مما يشكل قضية كونية، ما يزيد الأمر تعقيدا أن مجتمعات كبرى بازغة أخذت تستهلك هذه الموارد باتساع كالصين والهند اللتين تضمان قرابة المليارين ونصف المليار من البشر، ويتنافسان على ما تملكه البلدان الأخرى من موارد نفطية مثلما تفعل الدول الصناعية الكبرى، فلم تعد قضية المنافسة بين الأقطاب الكبرى قاصرة على حصول شركاتها على المزيد من الأرباح بالسيطرة على ما يستخرج من هذه المادة، بعد أن أصبح السعي إلى السيطرة يتصل بخطر نضوب المادة نفسها.
لقد أدركت “الو.م.أ” خطورة المسألة وحساسيتها بالنسبة لأمنها ومصالحها القومية، فهي بحاجة –فضلا عن منافسة القوى الناشئة- إلى أن تستجيب لمطالبها من النفط التي تتزايد باستمرار، فحاليا تستورد أمريكا 10ملايين برميل من النفط يوميا تشكل 53% من استهلاكها، ولكنها ستكون سنة 2020م بحاجة إلى أن تستورد يوميا 17 مليون برميل لتمثل 63% من الاستهلاك، لذلك فقد نبه تقرير أذيع للبيت الأبيض في ماي 2001 حول مخطط القومي للطاقة، نبه إلى أن الو.م.أ لا يمكن أن تعتمد على مصادر النفط التقليدية للحصول على المزيد من هذه المادة مستقبلا مثل السعودية، فنزويلا وكندا، فلابد لها أن تصل إلى مصادر جديدة، مثل مخزون النفط حول بحر قزوين ومصادر في إفريقيا وآسيا.
إن بسط النفوذ على منابع الطاقة في العالم، ما هو في حقيقة الأمر- إلا إحدى السبل التي انتهجتها الإدارات الأمريكية المتعاقبة بعد الحرب الباردة بهدف كبح جماح القوى الصاعدة وتقييدها بمجموعة من الشروط الجيوبوليتيكية التي من شأنها الإبقاء والمحافظة على الستانيكو، وإطالة مدة العالم الأحادي ما أمكن، والحيلولة دون تشكل مدى قاري يهدد التفرد التالاسوكراتي على العالم، إذ اتضح بشكل غير قابل للجدال أن الرغبة الأمريكية في السيطرة على السياسة الدولية، لا حدود لها، كما اتضح أنها لم تعد تسعى بجدية لإقناع حلفائها أو أصدقائها بضرورة التعاون معها، إذ تجلى ذلك في المواقف الانفرادية لها اتجاه عدة قضايا، كضرب العراق، وما يسمى بمحور الشر… كما اتضح أنها لم تعد تعير اهتماما لمشاعر ومصالح الآخرين الذين لا يجدون مبررا لتبني مواقفها وسياساتها، واتضح أنها مستعدة لتبني سياسات عدائية صريحة إزاء من لا يؤيد مواقفها أو الذي يتناقض معها بالأساس، وهذا ما عرف بإستراتيجية التورط العالمي لمواجهة التحديات والأخطار التي تهدد هيمنتها، أو تزعمها مركز المنافسة العالمية، باعتبارها القوة الأولى، والتي تسيطر على الهيكل الأمني والعسكري للعالم
.
4- إستراتيجية نشر الديمقراطية:
في مرحلة ما بعد الحرب الباردة وبالأخص في حقبة كلينتون كانت الو.م.أ بحاجة لرسم صورة يوتوبية لسياستها الخارجية على الأقل من أجل تأمين الدعم الداخلي لمبادراتها ومشاريعها، فكان التركيز على القضايا المتعلقة بالاقتصاد والاعتماد المتبادل وتشجيع النماذج الديمقراطية وحقوق الإنسان من أبرز تقاليد برنامج الحزب الديمقراطي الأمريكي، إذ تميزت السياسة الخارجية الأمريكية في عهد كلينتون عموما بالاعتدال والاهتمام الكبير بالسلام حتى سميت سياسته الخارجيةبالولسنية الجديدة“.
ولابد من الإشارة إلى أن الولسونية الحالية، تختلف عن تلك التي نشأت في عشرينات القرن الماضي بتحركها في سياق العولمة الأمريكية فبالإضافة إلى شراء واختراق القوى المعارضة لتحقيق نفوذ على حساب المستعمرين المنافسين، صار للولسنية أهداف من قبيل فرض القيم وتغيير المجتمعات وتدمير الأيديولوجيات المعادية وتحويل أمريكا إلى المحدد الأول للقيم.
يرجع اهتمام الو.م.أ وإدارة كلينتون بالأخص، بمسألة نشر الديمقراطية إلى إيمانها العميق بفعالية هذه الآلية، وتحقيقها لنتائج ايجابية بتكاليف منخفضة إذا أحسن تنفيذها، من شأنها تدعيم مكانة وقوة الو.م.أ الدولية، وفي هذا الشأن يقول جوزيف ناي: “من وجهة نظري فإن الو.م.أ إذا أرادت أن تبقى قوية، فعلى الأمريكيين أن ينتبهوا إلى قوتنا الناعمة، ويضيق أن القوة الناعمة تستند على وضع برنامج سياسي يرتب الأولويات بالنسبة للآخرين، وإن القدرة على تأسيس الأولويات تميل دائما إلى الارتباط بمصادر القوة المعنوية كأن تكون ثقافة جذابة، مؤسسات ديمقراطية… فلو أن الو.م.أ تمثل قيما يريد الآخرين إتباعها لكانت الكلفة التي تدفعها للقيادة أقلفما هو مؤكد أن نشر الديمقراطية تبقى مهمة عصية ما لم تطور الو.م.أ نموذجا ديمقراطيا جذابا يبعث الآخرين على الانقياد اللاواعي، وهنا تكمن فعالية هذه الإستراتيجية التي أولت لها إدارة كلينتون اهتماما بالغا، وعن هذه الفعالية كتب توماس باين يقول: من مجرد شرارة صغيرة توهجت في أمريكا اتقد اللهب الذي يبدو وكأنه لن يخمد… ودون أن تنوي، تعصف بتقدمها من بلد إلى آخر وتخضع البلاد بعمليات صامتة، عندما يعرف الإنسان حقوقه، يتحرر وينتهي الطغيان، لأن قوة الطغيان إنما تنشأ من خشية مقاومته
كما أن اهتمام الو.م.أ بقضايا السلام والديمقراطية، نابع من تخوفها من حدوث نزاع كبير يهدد تفوقها لذلك فإستراتيجية إدارة كلينتون المفضلة للحفاظ على السلام قامت على المحافظة على علاقات وثيقة وجيدة مع القوى الكبرى ودعم جهود السلام الإقليمية وبناء نظام عالمي ينسجم مع القيم الأمريكية عن طريق تشجيع نموذج الديمقراطية وباستخدام القوة العسكرية ضد الإساءات إلى حقوق الإنسان الرئيسية.
أي أن إستراتيجية نشر الديمقراطية كانت كآلية من آليات الهيمنة الناعمة، حفاظا وتحقيقا لمصالح وأمن أمريكا القومي، وفي هذا الصدد يقول بودهورتز، أحد آباء المحافظين الجدد: إن أمريكا كانت دائما أقل أمنا عندما ضعفت وتراجعت الحرية وستكون أمريكا أكثر أمنا عندما تسير الحرية قدما وإنه من غير المحتمل أن تبقى الديمقراطية الأمريكية طويلا في عالم تسوده معاداة القيم الأمريكية.
مما سبق يمكن أن نفهم أن فكرة نشر الديمقراطية تنطوي على أهداف عديدة، والأكثر من ذلك تقاطع هذه الأهداف في طريق واحد وهو طريق فرض العولمة، فكرا وثقافة واقتصادا، وفرض النموذج السياسي على النمط الغربي، هذا ما يؤكده الباحث المغربي محمد عابد الجابري حينما قال أن العولمة ليست مجرد آلية من آليات التطور الرأسمالي، بل هي أيضا، وبالدرجة الأولى أيديولوجيا تعكس إرادة الهيمنة على العالم، إذ ينظر إليها في المجال السياسي من زاوية الجيوبوليتيكا التي تعمل على تعميم نمط حضاري يخص بلدا بعينه هو الو.م.أ على بلدان العالم أجمع، فهي تعبر عن إرادة الهيمنة على العالم بل وأمركته.
غير أن لهذه الإستراتيجية محددات أساسية ومعالم عامة تحكم مسارها التنفيذي، وتبقيها في سياق خدمة الإستراتيجية الكبرى للو.م.أ وتوائم بين الثوابت والمتغيرات، بين التكتيك والاستراتيجيات وأهم هذه المحددات هي:
- التدرج والمرحلية. التمييز بين الدول.
- استخدام القوة عند اللزوم. - الموافقة بين الديمقراطية والمصالح الأمريكية.
فنشر الديمقراطية لابد أن يؤدي إلى تقويض الأنظمة الموالية لها في أي مكان من العالم، كما ينبغي في أغلب الأحيان أن يكون التغيير ناشئا بالتدريج وأن يحدث من الداخل لا أن يكون ثوريا ومفروضا من سلطة خارجية، أما التحدي الأكبر بالنسبة للو.م.أ فهو القدرة على الدمج والموافقة بين دعوتها للديمقراطية والمحافظة على مصالحها الحيوية، هذا ما دفع هنري كيسنجر يتساءل في كتابه الشهير هل تحتاج أمريكا إلى سياسة خارجية؟ قائلا: هل تسترشد السياسة الخارجية الأمريكية بالقيم أم المصالح، المثالية أم الواقعية؟ ليجيب نفسه، بأن التحدي الحقيقي هو في دمج الاثنين معًا، إذ لا يمكن لصانع السياسة الخارجية الأمريكية الجاد أن يغفل التقاليد الاستثنائية التي كرمت الديمقراطية الأمريكية نفسها بها، لكن لا يستطيع صانع السياسة الأمريكية أيضا أن يتجاهل الظروف التي يجب أن تطبق فيها.
بينما يبدو الباحث الأمريكي نعوم تشومسكي أكثر وضوحا في شرح ثنائية القيم الديمقراطية والمصالح بالنسبة للو.م.أ: حينما يبدو أن الديمقراطية تنسجم مع المصالح الامنية والاقتصادية لأمريكا، تقوم الو.م.أ بنشر الديمقراطية… أما عندما تصطدم الديمقراطية مع مصالح بارزة أخرى، فإنها تفقد قيمتها وأحيانا يتم إنكارها تماما.
مع هذا التحدي تستمر الو.م.أ في دعم هذه لاستراتيجية ناصحة الشعوب والدول مثلما يقول برادلي ثاير: “أن يتبعوا النصائح التي يوجهها طاقم الطائرات التجارية الأمريكية للركاب قبل الإقلاع إلزموا أماكنكم… استرخوا… واستمتعوا بالراحة… وسوف تضمن لهم الو.م.أ وصولا آمنا إلى المكان المقصود
.
5- المحافظين الجدد و عودة التشدّد في السياسة الخارجية:
إن من المفارقات التي تسترعي الانتباه، في السياسة الخارجية الأمريكية، هي أن صفحة الحرب الباردة قد جاءت على يد إدارة اليمين الديني المحافظ على الحزب الجمهوري، برئاسة جورج بوش الأب، ودشنت الو.م.أ زعامتها على العالم في بداية القرن الواحد والعشرين على يد إدارة يمينية دينية محافظة أخرى في الحزب الجمهوري برئاسة بوش الابن، لذلك فإن المدقق في الخطوط العامة للسياسة الخارجية الأمريكية، سوف لن يجد تغيرا جذريا في المبادئ التي حكمت مسارات هذه السياسة، بل حتى بالنسبة لإدارة كلينتون الديمقراطية، التي يرى فيها الكثيرون امتدادا –في سياستها الخارجية- للإدارة السابقة عنها، كما أن السياسة الخارجية في حقبة بوش الابن هي بدورها امتدادا وتطوير للسياسة الخارجية في حقبة كلينتون، مما يعني أن السياسة الخارجية للو.م.أ في جوهرها هي سياسة ثابتة، ولهذا فليس صحيحا ما رددته بعض التعليقات الصحفية من أن سياسة بوش العسكرية الجديدة هي وليدة أحداث 11 سبتمبر، وإن كانت هذه الأحداث قد زادتها حدّة وتوحشا للهيمنة على العالم، حيث قررت إدارة المحافظين الجدد أن تجعل القرن الواحد والعشرين قرنا أمريكيا خالصا الأمر الذي جعل من عقد التسعينات الفترة التمهيدية لبناء أسس هذا القرن الأمريكي، وتحضير كل مستلزمات هذا “الإعلان الرسمي” الذي يجب أن يحظى بإجبار القوى المنافسة على الاعتراف بهذا الواقع الدولي الجديد.
ويدل اسم دائرة التفكير التي نظرت لرؤية المحافظين الجدد للقرن الواحد والعشرون على هذه الرؤية الإستراتيجية: مشروع القرن الأمريكي الجديد وفي الدراسة الشهيرة التي وضعها هذا المشروع تحت عنوان إعادة بناء الدفاع الأمريكي تم التنظير على أساس: أن الفشل ليس من دون تكاليف إنه يعرض فرصة تاريخية لخطر الضياعأما عن خطوات تحقيق هذه الفرصة فتتمثل في:
- استعمال القوة العسكرية للسيطرة على المناطق الحيوية.
- أهمية أن تبقى الو.م.أ على القواعد والتسهيلات العسكرية بفرض المساهمة في تفويض أي قوة إقليمية مناوئة.
- بناء نظام عالمي جديد يقوم على القيادة الأمريكية له، ويهدف إلى ردع النظم المارقة الخطيرة.
- المضي قدما في مشروع الدرع الصاروخي حتى تكتمل السيطرة الأمريكية على الفضاء الخارجي.
- ضرورة أن تتغلب الو.م.أ على شتى التهديدات بصورة حاسمة وبغرض تحقيق الانتصار على القوى المعادية.
- أهمية أن تتفوق القوة العسكرية الأمريكية على القوى العالمية الأخرى.
إن مشروع القرن الأمريكي الجديد الذي نادى به المحافظون الجدد ما في حقيقة الأمر سوى إحياء للسياسات التي تبنتها إدارة ريغن أيام الحرب الباردة بما يتناسب والوضع الجديد الذي وجدت أمريكا نفسها فيه، وفي هذا الصدد، نشر اثنان من أكبر المرجعيات الفكرية للمحافظين الجدد، وهما وليام كريستول و روبرت كاغان،*** مقالا مشتركا في دورية Foreign affairs في عدد جويلية/أوت 1996 بعنوان: من أجل سياسة خارجية نيوريغنية يدعوان فيه إلى تغيير جذري وواضح في السياسة الخارجية الأمريكية يقولان في مقدمته: إن المسألة الدائمة لما بعد الحرب الباردة والمتمثلة في تساؤل أين هو التهديد؟ هو مطروح بشكل خاطئ، ففي عالم يعتمد السلام والأمن الأمريكيين فيه على القوة الأمريكية وإرادة استعمالها، يتمثل التهديد الأساسي الذي تواجهه الو.م.أ الآن وفي المستقبل هو ضعفها، إن الهيمنة الأمريكية هي خط الدفاع الوحيد الذي يمكن الاعتماد عليه في وجه انهيار السلام والأمن الدوليين وبالتالي فإن الهدف المناسب للسياسية الخارجية الأمريكية هو المحافظة على هذه الهيمنة ما أمكن ذلك في المستقبل، وتحتاج الو.م.أ لتحقيق هذا الهدف إلى سياسة خارجية نيوريغنية تؤمن بالهيمنة العسكرية والثقة الأخلاقية.
وهنا نذكر أن مسألة الزيادة في حجم ميزانية الدفاع عنصر جوهري في رؤية المحافظين الجدد، التي عكسها المقال المذكور، وبالفعل فقد قفزت ميزانية وزارة الدفاع إلى أرقام خيالية لا يبدو أن الكاتبان حلما بها.
خاصة بعد هجمات 11/9 حيث ارتفعت الميزانية العسكرية الأمريكية من 300 مليار دولار سنة 2000م إلى 400مليار دولار سنة 2004م لتصل قرابة 650 مليار دولار سنة 2006، إذ أصبحت الو.م.أ وحدها تمثل نصف النفقات العسكرية العالمية وأكثر من الثلثين من النفقات العسكرية للناتو.
ولتوثيق عرى القوة العسكرية الأمريكية أعلن رامسفيلد ما يعرف الآن باسم مبدأ رامسفيلد من أن جوهر القوة العسكرية الأمريكية هو استخدام قوى مشتركة وأسهل حركة في الحرب تدعمها المعلومات الاستخباراتية والتكنولوجيا العسكرية الفضائية والطائرات غير المأهولة…يقول رامسفيلد: “إننا لسنا بحاجة لأن نسرع على أقدامنا… إن ما نحتاجه هو إنجاز الأشياء خلال ساعات وأيام بدلا من الأسابيع والأشهر… وبأقل قدر من آثار أقدامنا على الأرض.
لقد كانت أحداث 11/9 المنعطف الأساسي الذي أدى إلى إعادة النظر في السياسة الخارجية ككل وبالأحرى التي كانت المبرر الكافي لتطبيق رؤية القرن الجديد يقول تشارلز كروثامر: “عندما أيقظتنا حادثة 11/9 أذهلتنا وأشعرتنا بأن كل شيء حصل فجأة كلا ليس ما حدث في 11/9 هو الجديد، إنما الجديد هو ما جرى في 26 ديسمبر 1991، ظهور الو.م.أ كقطب أحادي في العالم، الفريد هو مكاسبنا في هذا الصراع، مكاسب لم نكن في طول الحصول عليها طوال صراعات القرن العشرين، السؤال في الوقت الحاضر يطرح حول كيفية تنمية هذه المكاسب، وكيفية بسط سلطتنا كقطب منفرد، كيف ننشرها لكسب الحرب القديمة الجديدة التي تفجرت في 11/9″.
وتقدم الوثيقة الصادرة في 17 ديسمبر 2002 الإجابة عن هذه التساؤلات والتي جاءت تحت عنوان استراتيجيا الأمن القومي للو.م.أ تم تسميتها بـ: عقيدة بوش”"Bush Doctrine” وقد تضمنت الوثيقة مبادئ العمل والإعداد لإستراتيجية جديدة تحل محل الإستراتيجية الأمريكية التي كانت معتمدة طيلة فترة الحرب الباردة، كالردع النووي… إذ أصبح البديل العملي يتمثل بتبني إستراتيجية جديدة هي إستراتيجية الدفاع الوقائي والحرب الاستباقية، مفادها أن على الو.م.أ السعي الحثيث لإجهاض التطورات والقوى المنذرة بالخطر قبل أن تصبح في حاجة إلى علاجات حاسمة، حيث جاء في الوثيقة ما نصه: أنه بحكم الحاجة للدفاع عن النفس، سوف تعمل الو.م.أ ضد أي تهديدات ناشئة قبل أن تتبلور بشكلها الكامل… فلا تستطيع الو.م.أ أن تظل متمسكة فقط بسياسة رد الفعل وإن عدم القدرة على ردع المهاجم المحتمل وحجم الضرر الذي يمكن أن يسببه… لا يسمح بهذا الخيار، إننا لا نستطيع أن ندع أعدائنا يضربون ضربتهم الأولى.
أولى المبادئ التي تقوم عليها هذه الإستراتيجية فهي فكرة الردع المبكر، والتي تذهب إلى خلق قناعة لدى الخصوم القائمين أو المحتملين، أن أي عمل يمكن أن يقدموا عليه ويمس بأمن ومصالح الو.م.أ فإنه سيواجه بضربات وقائية وبدون سابق إنذار.
المبدأ الثاني ويقوم على مبدأ الضربة الإجهاضية-الاسترباقية التي تضمن عنصر المبادرة بالهجوم والمفاجئة به من أجل تدمير الخصوم إذا حاولوا القيام بأعمال غير مرغوبة من شأنه المساس بأمن الو.م.أ ومصالحها الحيوية.
تقع فكرة استباق ظهور التهديدات الكامنة بتسديد ضربة إليها في لب العقل المحافظ الجديد، ففي رؤيتهم لعالم ما بعد الحرب الباردة تطلعوا لاستباق حركة التاريخ التي قد تحمل منافسيهم إلى مواقع النفوذ العالمي، إذ لم تعد الو.م.أ مظطرة إلى الاكتفاء بردع هؤلاء ، فليس ثمة ما يمنع من شن حرب استباقية تحسن مواقع أمريكا وإقليميا ودوليا، ويعبر برادلي ثاير عن ذلك بقوله أن: الحروب ناذرا ما تكون أمرا ايجابيا لكن النتائج الايجابية تتأتى من الحرب.
إجمالا لا يمكن القول أن الإستراتيجية التي اتبعها المحافظون الجدد أدت إلى إحداث ثورة في السياسة الخارجية الأمريكية، بل أدت كما يقول أندرو باسيفيتش إلى عسكرة السياسة الخارجية وإلى تجسيم خطير للانفرادية والاستثنائية المزعومة، وخسوف للقيم الإنسانية الكونية كأبجدية لفن الحكم، فهي إستراتيجية تهدف بكل وضوح إلى: تشكيل بيئة عالمية بطريقة تتكيف مع المصالح الأمريكية وإستراتيجية هدفها عدم الاستجابة بل المبادرة في جميع الأحيان، إستراتيجية تؤكد وتتوقع، ترهب وتهدد وتستبق وتؤثر وتوجه وتسيطر.
6- الولايات المتحدة و القارة الأوراسية :
منذ أن بدأت القارات بالتفاعل سياسيا قبل حوالي خمسمائة سنة، كانت أوراسيا مركز النفوذ العالمي، في أزمنة مختلفة، وبطرق مختلفة اخترقت الشعوب التي تقطن أوراسيا بقية أرجاء العالم، وأخضعتها لسيطرتها بينما كانت دولة أوراسية معينة تحصل على مكانة خاصة وتتمتع بامتيازات كونها القوة الأولى في العالم، إلا أن العقد الأخير من القرن العشرين شهد تحولا بنيويا في الشؤون الدولية، فلأول مرة في التاريخ، تبرز قوة غير أوراسية ليس بصفة المتحكم الرئيسي في علاقات القوة الأوراسية وحسب إنما بصفة القوة العالمية العليا، كانت تلك القوة هي الو.م.أ.
لقد بدى للدوائر الإستراتيجية العليا في الو.م.أ بعد الحرب الباردة أن مصالح الو.م.أ تقتضي إعادة صياغة لعلاقات ومراكز القوة في القارة الأوراسية، هذا الإقليم الذي يعتبر من المناطق الحساسة جدا من العالم، نظرا للتنوع الإثني والمذهي فيه، الأمر الذي يمكن استغلاله بسهولة لإيجاد حالة من حالات التناحر الإثني ونوع من أنواع الحروب الإقليمية والتدخل فيها وتوجيهها لصالح منح خطوط للتواجد الأمريكي المستقبلي والفعلي في ذلك الجزء من العالم، بعد انحسار روسيا فيه وانكفائها نحو محيطها الداخلي والمساعدة على إيجاد كيانات ودول تتطلع لخطوة الرعاية الأمريكية مثلما حدث في البلقان.
إذن فالرهان الرئيسي بالنسبة للولايات المتحدة هو السيطرة على كامل أوراسيا وليس جزء منها وحسب إذ لم تعد القضية الجيوبوليتيكية اليوم تتناول أي منطقة جغرافية في أوراسيا تمثل نقطة الانطلاق نحو السيادة القارية، ولا البحث فيما إذا كان النفوذ البرى أهم من النفوذ البحري أم العكس، فقد انتقلت الجيوبليتيكا من البعد الإقليمي إلى العالمي حيث السيطرة على كامل القارة الأوراسية توفر القاعدة المركزية للسيادة العالمية.
هذا المجال الجيوبوليتيكي الرحب انطلاقا من أوروبا الغربية حتى أقاصي روسيا من دبلن إلى فلاديفوستوك، مرورا بآسيا الوسطى والأقطار النفطية والغازية المسلمة كمنظمة إستراتيجية الأكثر أهمية في العالم، حيث يجب على الو.م.أ أن تقوم بكل شيء في النتيجة من أجل أن تبقى القوة المهيمنة الوحيدة على القارة الأوراسية.
من ذلك نلحظ أن أوراسيا تحتفظ بأهمية جيوبوليتيكية بالغة بالنسبة للو.م.أ لا يرجع ذلك إلى غنى هذا الإقليم بثرواته الهائلة بل يعود لأسباب ترتبط بمصير أمريكا كقوة عالمية وحيدة، فالطرف الغربي لأوراسيا “أوروبا” مازال موطنا لجزء كبير من القوة الاقتصادية في العالم كثاني قوة اقتصادية بعد الو.م.أ “27.97%” من الناتج الإجمالي العالمي” والأكثر أهمية وقلقا أن طرفها الشرقي “آسيا بقواها الصاعدة” قد أصبح مؤخرا مركزا حيويا للنمو الاقتصادي والتأثير السياسي المتصاعد، إذ تحتوي على ثلثي سكان العالم، وتنتج ثلثي الناتج الإجمالي العالمي و بها أكبر دولتين من حيث عدد السكان “الصين أكثر من مليار و281 مليون نسمة، والهند بأكثر من مليار و50 مليون نسمة، وأكبر دولة من حيث المساحة روسيا: 17.1 مليون كلم2 ومن حيث عدد الصواريخ النووية الموجهة رأسا إلى الأهداف الحيوية في الو.م.أ وحلفائها الأوروبيين، فإذا أخذنا هذه الأمور جملة فإن القارة الأوراسية تمتلك جميع أبعاد القوة التي تسمح لها بتجاوز الولايات المتحدة، إذ تبقى هي المسرح الوحيد الذي توجد عليه قوة منافسة للولايات المتحدة، يمكنها أن تبرز مستقبلا حسب ما هو محتمل، ومن تم فإن الكيفية التي ستتعامل بها أمريكا مع هذه القارة تظل مهمة جدا بالنسبة لقدرة أمريكا على ممارسة السيادة العالمية.
لقد كان لانهيار الاتحاد السوفياتي تداعيات متعددة المستويات على السياسة العالمية، كان المباشر منها حصول فراغ استراتيجي في أوراسيا، المتغير العالمي الأساس الذي تولد من سقوط القطب الآخر، أوجد فرصا وتهديدات للو.م.أ فمن ناحية الفرص أصبحت أمريكا القطب الأوحد ومن ناحية أخرى أصبحت رقعة الصراع مع الدول الطامحة للتحول من قوى كبرى إلى عظمى أوسع وتمتد على مدى إقليم أوراسيا، حيث حلت القضايا السياسية الأوراسية مكان القضايا الأوروبية كمجال مركزي للشؤون الدولية ومن هنا فقد أبرزت التحولات تحديات جديدة اذ صارت ساحة الصراع متعددة اللاعبين متداخلة المعادلات، ولذا رغم أن أمريكا هي القوة الأرجح لكنها لا تملك كلية السلطة، فهي تحتاج إستراتيجية تلحظ ضرورة التعاون مع الآخرين “المحاور الجيوبوليتيكية” في التعاطي بنجاح مع مشكلات أوراسيا الكامنة.
لذلك يؤكد برجنسكي أن السياسة الامركيين عليهم أن يتوقعوا تماما تحركات مضادة من جانب دول أوراسية، ومن أجل تحليل جيواستراتيجي أكثر دقة، يصطلح في تحليله لطبيعة اللعبة الأمريكية في أوراسيا تقسيمين: 1- اللاعبين الاستراتيجيين، 2- نقاط الارتكاز الجيوبليتيكية، ويقصد باللاعب الاستراتيجي الدولة التي لا تدور في فلك الو.م.أ ولكن لديها مشروعها السياسي ويتوفر لديها بعض أو كل القدرة على تنفيذه فرنسا ألمانيا، روسيا، الصين، اليابان، أما نقطة الارتكاز الجيوبوليتيكي، فهي دولة لا تتوفر لديها مقومات اللاعب الاستراتيجي من حيث المشروع السياسي والمهارة اللازمة لتنفيذه، ولكنها مع ذلك دولة مهمة إما بحكم موقعها الجغرافي أو بحكم مواردها الطبيعية، أوكرانيا، أذربيجان، إيران…” ، كما أن أهميتها تكمن في أنها تحدد النفاذ إلى مناطق مهمة أو أنها تستطيع حجب الموارد عن لاعب مهم، لذلك فإن تشخيص اللاعبين الجيواستراتيجيين والمحاور الجيوبوليتيكية الرئيسية في أوراسيا لفترة ما بعد الحرب الباردة يعد جانبا حاسما في الجيوستراتيجيا العالمية الأمريكية، فالمهارة الجيواستراتيجية للو.م.أ تكمن في قدرتها على توظيف هذه القوى جميعا لأدوار مناسبة لها، لا تقوم على تهميشها كليا ولا تمنعها الأدوار أو المكافآت التي تزيد عن حجمها ومدى فاعليتها.
فتصميم الو.م.أ لنظام أوراسي يشبه حركة السفينة في عمق البحر، فالسفينة مهما كانت قوة محركاتها لا تستطيع السير بدون مَراسٍ تحفظ لا توازنها وتمنعها من الميل والغرق، فالسفينة الو.م.أ العنصر الجوهري في اللعبة،أماالقوى الأخرى فهي عبارة عن مراسي لا يمكن الاستغناء عن دورها لحفظ التوازن والاعتدال ولكنها لا تظهر على سطح الماء بحيث تعرف أهميتها.
لذلك فإن هدف الو.م.أ ينبغي أن يكون دائما هو الحفاظ على سيادتها الفريدة على كامل أوراسيا والعمل على الحفاظ على التعديلات الجيوسياسية ذات القدرة المحدودة في أوراسيا، لمنع نشوء تحالف كيانات معادية لها، من جانب آخر عليها البحث عن شركاء ومحاور جيوبوليتيكية ترتكز عليها وتساعدها في بناء وصياغة نظام أمني أوراسي يحفظ لها سيادتها العالمية.
وقد لخص برجنسكي البرنامج الجيواستراتيجي للو.م.أ عندما قال: تجنب أشكال التواطئ مع التابعين وإبقائهم في حالة تبعية تبرر سلامتهم وتنمية طواعية الرعايا التابعين، ومنع البرابرة من تشكيل تحالفات هجومية معادية.
لا حاجة إلى القول بأن روسيا تظل لاعبا جيوستراتيجيا رئيسيا على الرغم من حالة الضعف التي تعاني منها، فمجرد وجودها يؤثر بشكل كبير على الدول المستقلة حديثا ضمن المجال الأوراسي الواسع الذي كان يحتله الاتحاد السوفياتي، وهي تحمل أهدافا جيوبوليتيكية طموحة يزداد إفصاحها عنها علنا، وما إن تستعيد قوتها حتى يزداد تأثيرها الملموس على جيرانها، فلقد تصور البنتاغون في دراسة دقيقة أعدها مجموعة من الخبراء برئاسة الأميرال دافيد جيريميه سنة 1994 أن هناك سبعة سيناريوهات لأزمات خارجية يمكن أن تواجه الو.م.أ خلال السنوات العشر المقبلة، تحدث إحداها -السيناريو السابع- عن تهديد قادم من روسيا التي ستحاول القيام بعملية عسكرية ضخمة في جوارها الإقليمية وصولا إلى أوروبا لتحقيق أهداف توسعية، مما يعني أن روسيا ستظل لاعبا جيواستراتيجيا بالغ الأهمية حتى وإن فقدت بعض أحجار لعبها على رقعة الشطرنج الأوراسية.
وحتى تكتمل الصورة فلابد من التأكيد أن منطقة القوقاز –أذربيجان وجورجيا**** على وجه التحديد- تعد إحدى أهم المحاور الجيوبوليتيكية في الجنوب الأوراسي على الإطلاق، لها من الدور الجيوبليتيكي المتميز في تطويق الهارتلازند الروسي، تحجيم دوره وتقليص حظوظه في لعب الدور الذي يطمح إليه على المستويين الإقليمي والعالمي.
بناء على ما سبق، يتضح الآن وبشكل جلي السياق الجيوبوليتيكي والجيواستراتيجي والأمني الذي جاء بصدده التنافس الأمريكي الروسي على منطقة القوقاز كحلقة من حلقات التنافس المهمة إن لم نقل الأهم، على القارة الأوراسية التي اعتبرت ولا تزال مركزا للعالم من تكتب له السيطرة عليها يتوج بالسيطرة على العالم. هذا ما يدعونا إلى قبول الأطروحات الجيوبوليتيكية لكثير من الباحثين بأنه من السابق لأوانه الحديث عن “عالم واحد”، ومن تم فإن الثنائية الكونية للتالاسوكراتيا “المعززة بالآيروكراتيا والآثيروكراتيا” والتيلوروكراتيا تبقى الصورة الجيوبوليتيكية الأهم بالنسبة للقرن الحادي والعشرين، وتعد أطروحة هنثنغتون The West and the Rest “الغرب والبقية المعادلة الجديدة والأكثر تعمقا لمثل هذه الثنائية

 .
لمن أراد الحصول على المقال على شكل نسخة وورد :


المراجع المعتمدة
  :
أ‌. قائمة الكتب :
1- بريجنسكي زبيغنيو، رقعة الشطرنج الكبرى، الأولية الأمريكية و متطلباتها الجيواستراتيجية ترجمة: أمال الشرقي، الأهلية للنشر والتوزيع، الطبعة الثانية 2007، عمان-الأردن.
2- بريماكوف يفجيني، العالم بعد 11 سبتمبر وغزو العراق، ترجمة: عبد الله حسن، مكتبة العبيكان، الطبعة الأولى 2004، الرياض، السعودية.
3- ثاير برادلي، السلام الأمريكي والشرق الأوسط، ترجمة: عماد فوزي الشعيبي، الدار العربية للعلوم –مكتبة مدبولي، الطبعة الأولى 2004، بيروت-لبنان.
4- دوغين ألكسندر، أسس الجيوبوليتيكا، مستقبل روسيا الجيوبوليتيكي، ترجمة: عماد حاتم، دار الكتاب الجديدة المتحدة، الطبعة الأولى 204، طرابلس- الجماهيرية العظمى.
5- سعدي محمد، مستقبل العلاقات الدولية من صراع الحضارات إلى أنسنة الحضارة وثقافة السلام، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الأولى 2006، بيروت- لبنان.
6- فهمي عبد القادر محمد، المدخل إلى دراسة الإستراتيجية، دار مجدلاوي، الطبعة الأولى 2006، عمان-الأردن.
7- قبيسي هادي، السياسة الخارجية الأمريكية بين المحافظية الجديدة والواقعية، الدار العربية للعلوم، الطبعة الأولى 2008، بيروت-لبنان.
8- كليفلاند هرلان، ميلاد عالم جديد فرصة متاحة لقيادة عالمية، ترجمة: جمال علي زهران، المكتبة الأكاديمية، الطبعة الأولى 2000، القاهرة-مصر.
9- أبو خزام إبراهيم، أقواس الهيمنة دراسة لتطور الهيمنة الأمريكية من مطلع القرن العشرين حتى الآن، دار الكتاب الجديدة المتحدة، الطبعة الأولى، يناير 2005، بيروت-لبنان.
10- منذر محمد، مبادئ العلاقات الدولية من النظريات إلى العولمة، مجد المؤسسة الجامعية للدراسات، الطبعة الأولى 2002، بيروت-لبنان.
11- المخادمي عبد القادر رزيق، النظام الدولي الجديد بين الثابت والمتغير، ديوان المطبوعات الجامعية، الطبعة الثانية 2003، الجزائر.
12- الجاسور ناظم عبد الواحد، تأثير الخلافات الأمريكية الأوروبية على قضايا الأمة العربية، حقبة ما بعد حرب الباردة، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الأولى، يناير 2007، بيروت-لبنان.
13- بيارنيس بيير، القرن الحادي والعشرين لن يكون أمريكيا، ترجمة: مدني قصري، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الأولى 2003، بيروت-لبنان.
14- تشومسكي نعوم وآخرون، الإمبراطورية الأمريكية، مكتبة الشروق، الجزء الأول،الطبعة الأولى 2001، القاهرة-كوالالمبور-جاكارتا.
15- نصار بهيج، شريف دلاور وآخرون، تحديّا للهيمنة الأمريكية الطريق إلى عولمة بديلة ديمقراطية، مكتبة مدبولي، الكتاب 21، يناير 2004، القاهرة-مصر.
16- لوفابفر مكسيم، السياسة الخارجية الأمريكية، عويدات للنشر والطباعة، الطبعة الأولى 2006، بيروت-لبنان .
17- شلبي السيد أمين، أمريكا والعالم، متابعات في السياسة الخارجية الأمريكية 2000-2005، عالم الكتب، الطبعة الأولى 2005، القاهرة-مصر
18- الجهماني يوسف، تورا بورا أولى حروب القرن، دار الكتاب المصرية، طبعة خاصة، أوت 2002، دمشق-القاهرة.
ب.قائمة المجلات :
19- آل ثاني فهد بن عبد الرحمان،جيوبوليتيكية الاقتصاد العالمي من الجزيرة العالمية إلى أمريكا الكبرى، “مجلة المستقبل العربي”، العدد 275، السنة 1/2002، ص-ص 93_105.
20- حميد الدين عبد الله، السلوك الأمريكي بعد الحادي عشر من أيلول، “مجلة المستقبل العربي”.
21- عبد الستّار قاسم، الإستراتيجية الأمريكية الجديدة وانعكاساتها على العرب، “مجلة البيان”، العدد2، السنة 2004.
22- هارت ليدل، الإستراتيجية الشاملة للو.م.أ حرب المنافسين أعداء وأصدقاء، ترجمة: موسى الزعبي، “مجلة الفكر السياسي”، العدد 21، السنة الثامنة، شتاء 2005 .
23- عبد العظيم خالد، الصراع على النفوذ في الأوراسيا، “مجلة السياسة الدولية”، العدد 161، السنة يونيو 2005.
ج. قائمة المواقع الالكترونية :
24- الأسود الطاهر، نشأة وتطور إستراتيجية الحرب الاستباقية
25- جوزيف ناي، حدود القوة الأمريكية، ترجمة علي حسين باكير .

* مبدأ ازدواجية القارات: حيث تكون قارة في الشمال تمتلك القوة العسكرية والموارد البشرية المؤهلة والتكنولوجيا ورأس المال الكبير، وأخرى في الجنوب توجد فيها الأيدي العالمة والمواد الأولية والسوق الاستهلاكية.
· حسب تعريف جوزيف تاي فالقوة الناعمة هي طريقة أخرى وغير مباشرة لاستخدام وممارسة القوة فبإمكان دولة أن تحصل على النتائج التي تريدها في السياسة الدولية لأن الدول الأخرى تريد اللحاق بها وإتباعها إعجابا بقيمها أو تقليدا لنموذجها أو تطلعا للوصول إلى مستوى ازدهارها، فالقوة الناعمة لا تعني الإقناع، فهي أكثر من الإقناع والبرهنة بالجدال والحجة فهي الإغراء والجذب، والإغراء والجذب غالبا ما يؤدي إلى الرضوخ والتقليد.
** يعرفها ستيفن سلوان بأنها: “مواجهات سياسية وعسكرية مختلطة بين دول أو جماعات منافسة تكون دون الحرب التقليدية وفوق التنافس السلمي وغالبا ما تحتوي صراعات مبادئ وعقائد”.
*** وليام كريستول أحد أهم منظري تيار المحافظين الجدد وهو ابن إرفينغ كريستول المؤسس الفعلي لهذا التيار، متخرج من جامعة هارفرد بدكتوراه في العلوم السياسية، أما روبرت كاغان فمتخرج من مدرسة كيندي للإدارة التابعة لهارفرد، وينشر الاثنان مقالاتهما بشكل ثنائي.
**** تعد جورجيا دولة ارتكاز أساسية وذلك حسب دراسة أعدها بول كيندي رفقة باحثين أمركيين سنة 1998 والتي سيتم التطرق إليها لاحقا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق